د. عزالدين عناية

ترد تسمية «كتاب الجيب» في العربية في مقابل الصيغة الإنجليزية «pocketbook»، وهي تحيل على شكل معين من الكتب، على صلة بالسعر الزهيد وبالحجم الصغير. وتاريخياً ظهر أول كتاب للجيب في البندقية في مطلع القرن الخامس عشر، من إعداد الإيطالي ألدو مانوزيو، الذي راهن على صناعة كتب يسيرة الحمل محدودة الحجم، ومتقنة الشكل. استهدف مانوزيو ببضاعته جمهور القراء، ممن يتطلّعون إلى حيازة مكتبة تحوي المؤلفات الكلاسيكية، وليس الدارسين والكتّاب فحسب. وقد ظهر أوّل كتاب من هذا الصنف وبسعر مقبول حينها سنة 1501م، حيث استهلّ مانوزيو مغامرته بنشر كتاب الشاعر فرجيليو «بوكليك»، وذلك بحجم عشرة سم فقط.
نعرف أنّ ذلك العهد، شهد سقوط القسطنطينية (1453م)، وطُويت مع ذلك الحدث صفحة الإمبراطورية البيزنطية. غادر جراء ذلك كثير من المثقفين الإغريق القسطنطينية باتجاه البندقية، وهو ما مثّل سنداً ودافعاً للطبّاع مانوزيو في خيارات النشر التي راودته، إذ بفضل جماعات المثقّفين الوافدين تسنّى له اكتشاف التراث الإغريقي، والانطلاق في مغامرة نشر الأعمال الكلاسيكية. وفي واقع الأمر تضافرت عوامل عدّة شجّعت على بروز الظاهرة، منها تهيّؤ المناخ العام الذي كان يتطلّع فيه الناس إلى التحرر من رقابة الكنيسة. فكما يقول ماريو إنفِليزي مؤلف كتاب «الكتب الممنوعة» (مشروع كلمة، 2012): كانت الرقابة الفعلية تكمن حقيقةً وبقوة، في أيدي محكمة التفتيش. عامل آخر ساهم في تحفيز عالم النشر، ألا وهو التقدم الحاصل في مجال الطباعة مع الألماني غوتينبيرغ سنة 1455، بابتكار طباعة الحروف المتحركة، وهو ما مثّل تحولاً ثورياً في صناعة الكتاب.
ظاهرة الكتب الموجهة للاستعمال الميسّر، ليست غريبة عن تاريخ صناعة الكتاب لدينا. ففي بلاد المغرب الكبير، وبتأثير من المؤسستين العلميتين العريقتين الزيتونة والقرويين، ظهرت سلسلة من المخطوطات لا تزال نماذج منها مودعة في مكتبة الفاتيكان في روما (هي في الأصل كتيبات للتداول) لا يتجاوز حجم الواحد منها مفتوحاً الكفين، كانت موجهة بالأساس إلى طلبة العلم، ومما يتسنى نقله وحمله بيسر. ربما لم يدخل ذلك التقليد في دورة تجارية تسويقية على ما شهدناه في التاريخ الحديث مع تحولات النشر الصناعي، وهو ما قلّص الانتشار وحصرها في فئات اجتماعية محدودة.
التسويق الفعلي 
مع مطلع العصور الحديثة، تطوّرت في ألمانيا ظاهرة «كتاب الجيب» الزهيد السعر والصغير الحجم، بظهور ما كان يسمى بـ (Volksbuch)، وفي فرنسا مع «سلسلة المكتبة الزرقاء». ويمكن القول، إن التسويق الفعلي لكتاب الجيب، في الفترة المعاصرة، قد انطلق في إنجلترا منذ 1935 مع مغامرة «بينغوين» بنشر كتب الجيب (paperbacks)، ومع (chapbooks)، التي كان يعمل على ترويجها باعة جوّالون بأسعار زهيدة. وأما في إيطاليا فقد انطلقت الموجة مع الناشر «ريتزولي» سنة 1949، بإنشاء سلسلة «بور»، أي «مكتبة ريتزولي العالمية»، التي عملت على طباعة مؤلفات مشاهير الكتّاب الكلاسيكيين وفق المواصفات الجديدة. أتت التجربة الإيطالية بعد تجربة «بينغوين» الإنجليزية، و«ريكلام» الألمانية، و«سيمون شوستر» الأميركية.
 ولقيت تجربة «ريتزولي» استحساناً واسعاً وترحيباً هائلاً بين القراء خلال السنوات الأولى. وبرغم وفرة المبيعات اصطدمت التجربة بمرور الوقت ببعض المصاعب، لتبقى سنوات التطور الكبرى بين الستينيات والتسعينيات. فمع كتاب الجيب سجّل عدد القراء تطوّراً ملحوظاً، ولاقت التجربة استحساناً وسط الجمهور. ولم يوسّع كتاب الجيب دائرة القراءة فحسب، بل خلق قراءً جدداً كانوا بانتظار الرحيل نحو عالم القراءة. لعبت أكشاك الجرائد والمجلات في العملية دوراً بارزاً في تقريب المعروض الجديد من القراء، هجر فيها الكِتاب جدران المكتبات.
وفي البلاد العربية حقق «كتاب الجيب» نجاحات مع تبني مؤسسات تابعة للدولة أو شبه تابعة للدولة المشروع، ولكن منذ أن فوّتت الدولة القومية والوطنية في الكتاب التوعوي للمؤسسات الخاصة صار الناشر- التاجر يحصي العائدات المالية، وما يجنيه من كل مغامرة جديدة قبل التفكير في ترقية وعي القارئ. وكما نعلم عالم النشر هو عالم يختلط فيه مطلب المعرفة السامي بحسابات الربح العاجل. هنا اختلّت معادلة الناشر والقارئ، وداخلها الاضطراب، حتى أضحت أزمة مزمنة.
مجد التجربة 
ولو تمعنّا نجاحات كتاب الجيب، نرى ترافق مجد التجربة مع أكشاك الجرائد، حين كانت تمثل نقاط الترويج الأساسية. ولكن يبدو أن رحلة كتاب الجيب لم تتوقف هناك، بل تواصلت في «المغازات» العامة، وفي «المولات» التجارية، ولدى باعة السجائر، وربما سنجد كتاب الجيب يوماً في فضاءات تجمّعات الناس، مثل المقاهي، والملاهي، ومحطات النقل الكبرى. فخلال تطوافي في البلاد العربية لفتت انتباهي ظاهرة جميلة وفريدة في المغرب الأقصى، وهي باعة الكتب المتجولون وهم يرتادون المقاهي والمطاعم والساحات ويعرضون بضاعتهم على غرار غيرهم من الباعة، وهم غالباً يحملون ما خفّ وزنه وزهد ثمنه من الكتب التي لا ترهق حاملها ولا تثقل على قارئها.
وبمقياس تجاري تمثّلُ كتب الجيب الشعبية البضاعة الأوفر دخلاً لأصحاب مؤسسات النشر، إذ يتراوح المكسب المادي من كتاب الجيب في دور النشر الغربية بين 40 و45 بالمئة، بخلاف الطبعات الأولى للكتاب العادي، فهي تتراوح في حدود 20 – 25 بالمئة، وهذا لدى دُور النشر التي تحترم القارئ وتلبي رغباته ولا تعمل على استنزافه. وفي هذا الصنف من الكتب لا يعود الكسب لدى الناشر إلى عوامل مادية: نوعية الورق، والتجليد، والغلاف الطيّع، ولكن إلى تراجع التكاليف. إذ لا يدفع الناشر حق الترجمة والمراجَعة، وإصلاح المخطوطة وتدقيقها، أو إعادة التحرير، أو تكليف فنان بإنجاز صورة الغلاف الخارجي وما شابه ذلك. وإن تبقى الطبعات الأولى، على حد تقدير خبراء النشر، الأكثر مبيعاً نظراً إلى طبيعة السوق المحكومة في الغالب بما يُعرَض من بضاعة جديدة.
عادات القراءة 
في واقع الأمر يعكس حجم الكتاب التحولات الاجتماعية، وهو يكشف عن ظهور فئات جديدة من القراء داخل الشرائح التقليدية، ويخبر عن تغير عادات القراءة، وأن الحدس بوجود جمهور قرائي يمكن استهدافه، كان فيما سبق خفياً، هو ما يعيد النظر في الكتاب شكلاً ومحتوى، إذ غالباً ما ينبني التفكير في إطلاق كتاب الجيب على تفريق بين صنفين من القراء: القراء الدارسون الذين يقرؤون على الطاولات، ويجلسون على الكراسي، وهؤلاء لا يعنيهم كثيراً كتاب الجيب، ولكن يبقى المستهدَفون بكتاب الجيب هم قراء المتعة والفراغ، ممن يقرؤون على الأرائك، أو مرتخين على أسرّة النوم، أو في وسائل النقل العمومي، ممن يقضون وقتاً لا بأس به في المحطات والقطارات والحافلات وما شابهها، وهؤلاء من يتمّ استهدافهم بسلسلة الكتب الشعبية زهيدة السعر صغيرة الحجم. وإن كان مع العالم الافتراضي الجديد قد تأثر، على حد سواء، الكتاب الكلاسيكي وكتاب الجيب بالتحدي الجديد.
الحديث عن الطبعات الشعبية، وعن كتاب الجيب، وعن الكتاب للجميع، هو في واقع الأمر خيار وطني، وليس خيار مؤسسات خاصة، مهووسة بتكديس الربح ولا يعنيها كثيراً ترقية الوعي.