محمد عبدالسميع
الشعر الإماراتي ليس مجرد ألفاظ تقال، ولكنّه فنٌّ من فنون الحياة ووجهٌ من وجوه الوجود الإنساني والوطني، يستند إلى جذور راسخة تروي قصة التصميم والنجاح، فكانت الغنائية بالشعر تتويجاً لهذا المنجز الوطني ومظهراً من مظاهره المبررة بالاعتزاز بالذات.
و«الشعر الإماراتي.. إشراقة الروح» هو عنوان هذا الاستطلاع الموسع الذي نقف فيه مع عدد من النقاد والشعراء والأكاديميين على قيمة التجليات الأدبية في مضمار «ديوان العرب»، ومدى تطوّر هذا الجنس الأدبي في مسيرة الوطن والإنسان. من ناحية أخرى، سوف نقرأ ظواهر هذا التطوّر الفنيّ الذي يؤكد حضور الدولة وانفتاح آفاقها الثقافية وحضور ما يؤكد أصالتها في الوقت ذاته، فيما يشير معنى «إشراقة الروح» إلى التطور والانفتاح، كسمة من سمات الكون والحياة، ومتطلبات تعاون والتقاء بني الإنسان، حتى في أمزجتهم الشعرية ورؤاهم الفكرية.
إذا كان لكل شيء فلسفة، فإنّ فلسفة هذا الملف هو في فهم آفاق التجديد والحفاظ على الموروث والتقاء الثابت بالمتغير في توليفة جميلة تزهو بها الحياة وتسير في ضلالها الإنجازات دون قلق، باعتبار الشباب الإماراتي واعياً لمسألة التجديد والتمسك بالأصيل، مما يدل على الهوية والبدايات، وهو أمرٌ ينسحب على كل شؤون الحياة في الأدب وغير الأدب، ولهذا فإن هذا الاستطلاع الذي أجرته «الاتحاد» مع نخبة ممن هم حاضرون في المشهد الثقافي الأدبي الشعري ومتابعون لانطلاقته ومباركون لنجاحه، هو استطلاع يظهر عمق الرؤية المستقبلية للقيادة الرشيدة في الجانب الثقافي، والانسجام الحاصل بين الأدباء ووطنهم وهم يقرأون كامل المشهد: منذ الماجدي بن ظاهر في القصيدة النبطية حتى يومنا هذا، ومنذ أن انطلق شعراء الحيرة في لقاءاتهم واجتماعهم على الإبداع حتى تنوعوا في أشعارهم، فتركوا لمن جاء بعدهم أرضية خصبة لهذا التنوع والتجديد والأصالة والإبداع.
القضايا الجديدة
حول الشعر الإماراتي بين التحول والتلقي، ترى الناقدة الدكتورة مريم الهاشمي، من الإمارات، أن التحولات التي طرأت على مفهوم الأدب من حيث صياغته ورؤيته فرضت على القارئ شروطاً ثقافيةً، حيث تجاوز الشعر في أساليبه الجديدة لغة الجماعة ومفاهيمها المشتركة إلى لغة ذاتية يعبّر من خلالها عن أغواره الداخلية وتوتراته العاطفية، كما تطوّر وعي الشاعر الإماراتي الحديث في زمن التفجّر الكبير للمعرفة، فغادر الشاعر أغراض الشعر القديمة وتفاعل مع مشاكل عصره السياسية والثقافية والوجودية، وهذا التحول أحدث انقلاباً في رؤية النص الشكلية وفي رؤيته للنص، حيث تجربة الإبداع هي تجربة الإبداع والتلقي معاً، إذ يمتلك القارئ شروطه الحضارية والاجتماعية والزمنية.
أمّا بيئة الشعر، فنشأت عن رعاية الدولة، وتأكيد حضور الثقافة والإبداع، كما يقول الشاعر محمد عبدالله البريكي، مدير بيت الشعر بالشارقة، حيث يجد الشاعر في الحالة الإماراتية دعماً كبيراً وتقديراً لكل مبدع، وبالتالي فإن القيادة الحكيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة تولي هذا الجانب عنايتها، حيث كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، راعياً للشعر والشعراء، وكان الشعراء ينطلقون بجميل الشعر الذي لا يزال على الرغم من التحول الرقمي والإلكتروني، باقياً وله حضوره في الوجدان العام للدولة والشعب والدارسين.
وينطلق الشاعر والكاتب والباحث في التراث عارف الشيخ من أنّ العالم يتغير من حولنا ونحن جزءٌ منه، أمّا قضية التغيّر بحد ذاتها فهي قضية تحتاج إلى نقاش، ذلك لأن هذا التغيّر ليس معناه، كما يرى، التخلي عن القيم والهوية، باعتبار الشعر ثقافة والثقافة لغة الشعوب وجوهر كينونتها، واستناداً إلى ذلك تتميز كل أمة عن غيرها.
وفي موضوع الشعر يرى الشيخ أنّ التغيّر شمل النوعين: الشعر الفصيح والشعر النبطي، ويورد مثالاً على ذلك بأنّ البدوي الذي كان ينشد أشعاره تحت ظلّ الشجر وفوق عراقيب الرمال وهو ممسكٌ بخطام ناقته، يكتب اليوم أشعاره في الغرفة المكيّفة أو في مقهى في مركز تجاري مكيف، أو على مقعده في الطائرة أو اليخت المكيّف وسط البحر.
ومن هذا يرى الشيخ أنّ وعاء الثقافة قد اختلف، كما يحذر من طغيان المادة على قيم الشعر وضوابطه الأخلاقية، ويضيف بأنه ليس من دعاة التشدد أو العزلة عن العالم، بل يعتز بهويته ولغته وتاريخه، فالأدب لغة والشعر هوية والفن أصالة، والتعبير عن ذلك يحتاج ولاءً للقيم وانتماءً للأرض، أمّا التجديد فيكون مدروساً من خلال الوعي والفهم والقراءة الموضوعية لهذا العنوان.
أما المفردة التراثية في الشعر الإماراتي، فيراها الشاعر الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي موضوعاً متعلقاً بلهجة وأسماء الأدوات والمسميات والوطن والكثير من المتعلقات بنا، وهو أمر ناشئ عن الإيمان بأهمية الوطن وترابه ونسيجه الفكري والاجتماعي، ومن الطبيعي أن يكون الشعر مهيمناً على المشهد الاجتماعي العربي عامةً والإماراتي على وجه التحديد، فهو يتخلل المجتمع ويلامس أحاسيسه وجميع شرائحه، ويحمل ذلك كله الإعلام الثقافي، سواءً في الصحف أو الملاحق الثقافية أو المجلات المتخصصة أو في الهيئات والمنتديات الثقافية.
صورة مشرقة
وفيما يخص القصيدة النبطية، يرى الناقد السوري المقيم في الإمارات الدكتور عبدالرزاق الدرباس، أن حجم الشعر النبطي من الطبيعي أن يكون كبيراً ومنتشراً بسرعة، لأنها فطرة الإنسان العربي، ولأن القصيدة النبطية تعدّ ركيزة راسخة للأصالة والتراث، ومعبّرةً عن الحياة القديمة، من صحراء وإبل وجبال وصيد وشواطئ وغوص وزراعة وبحث عن الماء، وما إلى ذلك، كما أنّ التطور لم يكن غريباً في الشعر النبطي والشعر الفصيح والشعر الغنائي وشعر التفعيلة والشعر المنثور، وقد أعطى الشباب الإماراتي صورة مشرقة عن التراث الإماراتي وانفتاحه على المستجدات، فالقصيدة الإماراتية هوية تراثية متجذرة وشجرة تتلقى نسائم التغيير بوعي، وهي إشراقة مستمرة للجمال.
وتنظر الشاعرة الهنوف محمد، أمين السر العام لمسرح دبي الوطني، إلى الشعر كشاهد على ثقافات الشعوب وحضاراتها وله مكانته النفسية، وهو أدبٌ راقٍ حملته الصحافة الثقافية والملاحق والمجلات الثقافية، إذ أسهمت الصحف والملاحق والمجلات بتكريس شعراء الدولة الذين أغنوا القرّاء والثقافة بأفكار رائعة وجديدة وغيّروا من سلوكيات في المجتمع. كما أنّ ظهور أنواع وأنماط وأشكال جديدة للشعر هو أمرٌ لا غرابة فيه، حيث تجتمع المفردة التراثية مع المفردات الأخرى لتؤكد الحضور الوطني والمكان الإماراتي والمسميات، كالنخلة والبحر والصحراء والجبال.
ذاكرة المكان
ويقول الأكاديمي والشاعر السوري المقيم في الإمارات الدكتور أكرم قنبس، إن الشعر الإماراتي هو ذاكرة في شقّيه النبطي والفصيح، يحمل المكان، ويعبّر عن حضور الإنسان وتوثيقه الحياة الاجتماعية وثقافة الناس بالشعر، مستذكراً شعراء «جماعة الحيرة» في الشارقة، وكذلك شعراء القصيدة النبطية، ابتداءً بالماجدي بن ظاهر ومن جاء بعده في سلسلة الشعراء الرواد في هذا المجال، وهم كثيرون، كما يؤكد قنبس أنّ تطوّر مستوى البناء الفني هو أمر طبيعي، تفرضه طبيعة الحياة وتنوعها وأمزجة الشعراء، وفي الوقت ذاته ظلّ الشاعر حاملاً للقيم الوطنية ومدافعاً عنها وعن حضور الدولة، ومن جانب آخر، فقد كان التجويد في قيمة القصيدة الفنية وتطوّر مستواها أمراً مطلوباً وحاضراً في الحالة الإبداعية الإماراتية.
وفي حالة التجديد، يقول الشاعر عبد العزيز باروت، من الإمارات، إنّ الفكرة الحيّة هي القابلة للتطور والصمود والتجدد، وهو ما ينطبق على الأجناس الأدبية والفكرية، فقد تحدى الشعر الزمن ومتغيراته متجدداً في ذاته وشكله وأدواته ومضامينه، كما أنه ما من تناقض بين الأصالة والحداثة والمعاصرة، فالأصالة أساساً هي مركزية الإنسان.
السلاسة والصفاء
أمّا ارتباط الإمارات ببيئتها البحرية والصحراوية والزراعية، فتقول عنه الشاعرة المصرية أمل الشربيني، إنه ارتباطٌ أنشأ تلك الروح الشعرية المتأملة بالفطرة، حيث خطاب الطبيعة ومناجاة الرحلة، ليكون الشعر وسيلة للسمر وطلاقة اللسان، فقد أثرت البيئة البحرية والغوص على سبيل المثال، في الشعر، ليكون سلساً وصافياً، ويقاس على هذا الجمال الارتباط بالصحراء وصقورها وخيلها، وهو ما يؤكد أن الإنسان الإماراتي، والشاعر في النهاية هو ابن بيئته، حتى وإن سار في طريق التجديد والإبداع.
وفي مجال القصيدة النبطية، يرى الشاعر السوداني محمد المؤيد المجذوب، أنّ النصوص الشعرية القديمة منذ المايدي بن ظاهر ما تزال تأخذ مكانها المرموق والأثير في الإمارات والوطن العربي، إذ فتحت الدولة آفاق التعبير واحتضنت إبداع المبدعين، فأصبحت الإمارات مركزاً للشعر والشعراء، إضافة لثقافات مشتركة ما بين المواطنين والوافدين، ما أسهم بتفاعل إبداعي وأدبي جميل.
ويتأكد اهتمام الدولة بالشعر، كما تقول الشاعرة السورية أحلام البناوي، في كون الإمارات من رعاة الشعر الإماراتي والخليجي والعربي أيضاً، بجميع أصنافه، خاصةً في مهرجانات كبيرة جعلت القصيدة الإماراتية تتجدد هي الأخرى وتواكب متطلبات المجتمع، فالطقس الشعري هو في النهاية جزءٌ من هوية الدولة، تماماً كالدّلة والفنجان، فكان التطوير ينتقل تدريجيّاً من السرد والحكمة في الماضي إلى الفلسفة والتضمين والصور المبتكرة الجديدة، والقضايا المتجددة بطبيعة الحال.
ختاماً يقول الشاعر العُماني عبدالحميد الدوحاني، إن شعراء الإمارات تطرقوا إلى الكثير من القضايا الإنسانية وفتحوا آفاق التجديد والإبداع في الصحافة الثقافية والمجلات وفي النشر، وكذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وكلّ الوسائل الإلكترونية، فضلاً عن المنتديات والهيئات الثقافية التي أسهمت في مهرجاناتها وندواتها ومؤتمراتها، وهو ما انسحب أيضاً على الشعر النبطي والحفاظ عليه، باعتباره يمثل الشعب والتراث الوطني.