محمد نجيم
«أفضّل أن يكون العنوان قصيراً قابلاً للحفظ، ومتوقداً يشي بنص حيوي ومراوغ»، بهذه الإضاءة يتحدث الكاتب والروائي العراقي أزهر جرجيس لـ «الاتحاد» عن اسم روايته الجديدة «وادي الفراشات»، التي صدرت مؤخراً عن دار الرافدين ومنشورات مسكيليان في بيروت، وتأتي الرواية بعد أعمال أخرى من بينها: «النوم في حقل الكرز»، دار الرافدين بيروت 2019، ووصلت في جائزة البوكر للرواية العربية 2020 إلى القائمة الطويلة. و«حجر السعادة»، دار الرافدين، بيروت 2022، وصلت في جائزة البوكر للرواية العربية 2023 إلى القائمة القصيرة، وغيرها من الأعمال، التي تجسد مسيرته في الإبداع الروائي.
بدايةً، أسأل الروائي أزهر جرجيس عن السر في جماليات عناوينه وتكثيفها من «صانع الحلوى» إلى «النوم في حقل الكرز» إلى «حجر السعادة»، والآن «وادي الفراشات»، فيجيب: العنوان، بما له من دور حاسم في جذب انتباه المتلقي وتوجيهه نحو فهم العمل الأدبي، يعدّ عنصراً هاماً للغاية لا تنبغي الاستهانة به. لذلك يجب أن يرتبط بالمضمون العام للرواية أو أحد موضوعاتها الرئيسية ليكون معبّراً حقيقياً عن هويتها. بالنسبة لي أفضّل أن يكون العنوان قصيراً، قابلاً للحفظ، ومتوقداً يشي بنص حيوي ومراوغ. لا أحبذ العناوين الشاعرية ولا تلك المتبوعة بعنوان ثانوي طويل. لقد حاولت قدر المستطاع اجتناب العناوين المباشرة كذلك، واعتمدت ما يحمل معاني رمزية تتعمق مع تقدم القارئ وتوغله في صفحات الرواية. ربما يقال إنها عناوين متعاكسة مع المضامين، لكن هذا التعاكس، بحد ذاته، مفارقة تضمن إشراك «العتبة» في السخرية وتوحيد اللغة في حدها الأقصى.
أما «وادي الفراشات» فليست بعيدة عن عنوانها، إذ هنالك وادٍ بالفعل يتم اكتشافه من قبل بطل الرواية، عزيز عواد. وإذا أردت إخبارك عن مضمون الرواية، فلا أستطيع سوى القول بأنها رواية من خمسة فصول، تحكي عن موظف حكومي يفقد عمله، ليجد نفسه في النهاية سائق جنائز يحمل الجثث نحو مقبرة مخصصة لدفن اللقطاء والمنبوذين. تدور أحداث الرواية ببغداد في الفترة الزمنية الواقعة بين العامين 1999 2024 وتستحضر أجواء مقبرة المنبوذين وحياة بانيها، الدرويش المدعو بدري النقاش. يلتقي بطل الرواية، عزيز عواد، ذات ليلة بالدرويش ويتعرّف على «وادي الفراشات» وطقوس الدفن هناك، فتنقلب حياته رأساً على عقب. يتعرض إلى حادث يجعله يدور بين الأزقة والحواري ويفتش البساتين بحثاً عن جثث اللقطاء لأجل دفنها في الوادي، ثم الجلوس على الحافة لمشاهدة الفراشات المضيئة المحلّقة فوق القبور. تتصاعد الأحداث وتشتبك، فيجد سائق الجنائز المنحوس نفسه أمام القانون.
فيما يتعلق بموضوع روايته «وادي الفراشات»، وهل استمده من أحداث حقيقية أم متخيلة، يقول جرجيس: هنالك علاقة جدلية بين الرواية والواقع، منشؤها أن الرواية فن قائم على التجديد، وليس سوى الواقع ما يوفر مواطن التجديد هذه. لهذا فإننا لا نكتب بمعزل عن الواقع والحقائق الجارية فيه، ما يحدث في الواقع رصيدنا للقصّ. إلا أن الحقائق الواقعية هذه لا تلين ولا تستساغ دون ملح التخيّل، لذا يمكنني الزعم بأن ما من رواية كتبت دون تخيّل، ولو في حده الأدنى، عدا ذلك فإنها شيء آخر غير الرواية.
وفق هذا جاءت «وادي الفراشات» مزيجاً من الخيال والعناصر المستوحاة من الأحداث الحقيقية. الأحداث التاريخية التي وقعت في بغداد بين عامي 1999 و2024، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لسكانها هي أحداث واقعية أثرت بشكل كبير على حياة العراقيين. هذه الأحداث تشكل الخلفية التاريخية للرواية، وتؤطر التحولات الدراماتيكية التي يعيشها أبطالها. ومع ذلك، فإن الشخصيات مثل عزيز عواد وزوجته وخاله جبران والدرويش، وكذلك قصة تحوُّل عزيز من موظف أرشيف إلى سائق جنائز، هي عناصر متخيلة، تم ابتكار هذه الشخصيات لتكون رموزاً للعديد من العراقيين الذين عاشوا تجارب مشابهة في ظل الظروف القاسية التي مرت بها البلاد خلال تلك الفترة.
ديوان العرب
يتفق الروائي أزهر جرجيس مع عدد كبير من النقاد القائلين بأن الرواية أصبحت ديوان العرب الجديد، يضيف: نعم، أتفق، فالرواية، بوصفها شكلاً أدبياً مرناً ومتنوعاً، أصبحت الوسيلة الأكثر فعالية للتعبير عن القضايا الراهنة والإنسانية في الأدب العربي. في ظل الظروف المعاصرة، يبدو من الطبيعي أن تنال الرواية مكانة «ديوان العرب الجديد»، متجاوزة الأشكال الأدبية الأخرى في شعبيتها وتأثيرها. لم ترتق الرواية بالصدفة لتكون ديوان العرب الجديد، بل كان لذلك أسبابه الكثيرة، الثقافية، منها والاجتماعية، العاكسة للتحولات في الأذواق الأدبية وسلوك القراء. لقد شهد العالم العربي في العقدين الأخيرين تغيرات كبيرة تكفّلت بتغيير اهتمامات الناس وأولوياتهم، الأمر الذي جعلهم بحاجة إلى معالجة القضايا المعاصرة بطريقة شاملة ومفصلة غير مبينة على الاختزال والتكثيف، فكانت الرواية أكثر ملاءمة للتعبير عن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية المعقدة. تسمح الرواية، وهذا من شأنها، باستكشاف الكثير من الموضوعات التي قد يصعب تناولها في الشعر أو القصة القصيرة، ومن خلال السرد الطويل والشخصيات المتعددة، يمكن للرواية أن تغطي قضايا مثل الهوية، السياسة، الحب، والمعاناة الشخصية بطريقة تجعلها قريبة من اهتمامات القراء. كما أنها طيّعة على التحويل إلى أعمال سينمائية أو تلفزيونية، مما يفتح لها باباً واسعاً للوصول إلى جمهور أكبر، ومتأثرة بالاتجاهات الأدبية العالمية، وهو ما يجعلها أكثر جاذبية للكتاب الذين يرغبون في أن تكون أعمالهم جزءاً من الحوار الأدبي العالمي. على عكس الشعر، الذي قد يكون تأثيره محدوداً بسبب الحواجز اللغوية، فإن الرواية تمتلك قدرة أكبر على الوصول إلى جمهور عالمي من خلال الترجمة. هذا وغيره، مما يخصّ طبيعة الرواية وميزاتها، دفع الكثير من الأدباء صوب كتابتها، كما دفع المؤسسات الثقافية العريقة إلى تخصيص جوائز أدبية تحتفي بكتّاب الرواية وتقدّرهم وتفتح أمام أعمالهم أبواباً جديدة للنشر والترجمة.