إيهاب الملاح

«في عزلة الشيخوخة وعجزها، ينتشر التأمل مثل عبير البخور، وقال لصاحبه العاكف على العبادة وكأنه يعتذر: في زحمة هموم أسرتي، ومطالب الشؤون العامة، ضاع عمري فلم أجد وقتاً للعبادة.. في تلك الليلة زاره في المنام من أهدى إليه وردة بيضاء وهمس في أذنه: هدية لا يستحقها إلا العابدون الصادقون»..
*****
«وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرتُ عليها وراء صف من الكتب، وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.. ابتسمتُ. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.. وأفلت من قبضة الزمن حنينٌ عاش دقائق خمساً.. وندّ عن الأوراق الجافة عبيرٌ كالهمس..
وتذكرتُ قولَ الصديق الحكيم: (قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان)...»
(«أصداء السيرة الذاتية».. نجيب محفوظ)
لا أذكر على وجه التحديد متى وكيف انتبهت إلى الصلة الصوتية والدلالية بين كلمتي «غربة» و«اغتراب»!
صكت أذني في أواسط تسعينيات القرن الماضي كلمة «المثقف المغترب»، وكان المجلس الأعلى للثقافة آنذاك يحتفل بألفية أبي حيان التوحيدي صاحب الإمتاع والمؤانسة والمقابسات والإشارات الإلهية، إنه ذلك المثقف المغترب بحاله وشعوره عن آله وناسه وذويه. إنه ذلك الشاكي الباكي صراخه يصم الآذان، لكنه يصدقنا القول بواحد من أصدق وأنصع نصوص البحث عن الغريب «ومن يكون؟ كلنا مضطر للسعي والاستمرار في الحياة.. لكن بيننا غرباء كثيرون. فأي غربة تعني يا توحيدي العصر؟ وعن أي غريبٍ تتحدث؟ اسمع معي - يا صديقي - أبا حيان التوحيدي يجيبنا من غربته (أم اغترابه) في القرن الرابع الهجري: (يا هذا! الغريب من في غربته غريب.
يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذاله، وأغرب في أقواله وأفعاله، وغرب في إدباره وإقباله!
يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه)». 
الغربة في مجالها الدلالي العام تدور حول مفارقة المكان، الغربة غربة عن المكان بالسفر، أو النفي، أو الهجرة، لكنها قد تكون أيضاً غربة في المكان، كما فاض لسان أبي حيان التوحيدي في حديثه عن «الغريب» بين أهله، وفي أهله، وفي وطنه!
أما «الاغتراب»، فالأغلب نحن نتحدث عن حال معرفية ووجودية واتصال عميق بواحدةٍ من أرهف تجارب الإنسانية عبر تاريخها كله، منذ اغتراب الإنسان الأول عن أصله وانفصاله عن منشأه، وصولاً إلى السعي لاقتناص هذه الحال وإدراكها وتوصيفها!
إن الاغتراب - في بعد مركزي من أبعاده الفلسفية والوجودية - هو تلك الحالة من فقدان السيطرة على الذات وقدراتها وملكاتها عندما يصنع الإنسان شيئاً معيناً: آلة مثلاً، أو نظاماً أو فكرة.. إلخ، ثم يجد أنه بدلاً من أن يسيطر على ما صنعه، يصبح ما صنعه مسيطراً عليه، كما (في فيلم شارلي شابلن الشهير الذي صور فيه ببراعة اغتراب الإنسان عن حاله بعد أن أصبح ترساً في نظام الآلة وجزءاً منها!)
ليس منا من لم يشعر لحظة واحدة في حياته بالغربة أو الاغتراب أو الاثنين معاً! إنهما مرتبطان بحال الإنسان ووجوده وحياته ومعاشه في هذه الدنيا حتى رحيله منها! الغربة نقيض الألفة.. الغربة انقطاع عن التواصل! أما الاغتراب فوحدة وسط الجموع!
يصرخ الأبنودي في أحد نصوصه المدهشة:
أسافر في الصباح وأسافر في الغروب
هربان من الجراح ولّا من الهروب
غريب شايف البراح.. أضيق من الدروب
ضاقت بيا الفلا.. وضاق بيا الخلا
مين خلَّى العين حزينة.. وجرّح القلوب!
تشطيرات حادة وسريعة يميَّز فيها الأبنودي بين حاليْ الغربة والاغتراب! مدهش الفن ومدهش الأدب، يقدران في كلمات على ما لا تقدر عليه كتب الفلاسفة ومجلدات الوصف والتحليل! السفر غربة وقد يكون نأياً، وقد يكون هرباً، وقد يكون مواجهة إلى حين! أما غريب النفس غريب الروح (المغترب بالمعنى الوجودي والنفسي)، فهو يرى الفضاء بأكمله أضيق من ثقب الإبرة! هذا هو الشعور القاتل الذي يجرح القلب ويدمي الروح ويسيل العبرات!
تدهشني دوماً هذه القدرة الفنية والإبداعية على وصف تلك المشاعر الاستثنائية في حياة البشر! إذا أردت أن تستجلي مظاهر وتمثيلات للغربة والاغتراب فالأدب خير معين! الإبداع هو الملاذ والملجأ، وهو حائط الصد أمام الانسحاق لغربة مكانية أو اغتراب وجودي!
ومن ينسى «غريب» ألبير كامو ومن لا يذكر حيرة وقلق واغتراب كمال عبد الجواد في «السكرية» (الجزء الأخير من ثلاثية نجيب محفوظ)! نصوص دويستويفسكي وكافكا ومارسيل بروست وفيرجينيا وولف و... و...
الأمثلة تحتاج إلى مجلد أو يزيد! فلنقنع بالشاهد الموجز والدليل الدامغ!
أتذكر بطل قصة تشيخوف الشهيرة «الحوذي»، ذلك الذي لم يجد من يحادثه ويبثه شكواه سوى حصانه! برع الكتاب الروس عموماً، وتشيخوف ودويستويفسكي بالأخص في تصوير عذابات الإنسان ومعاناته الوحدة والاغتراب والقلق!
ربما لهذا السبب كان نجيب محفوظ يصف الأدب الروسي بأنه من أروع آداب الإنسانية عبر العصور! تتلمذ محفوظ في مدرسة المشاعر الإنسانية التي برعوا في تصويرها، وبرع هو كذلك في اقتناص هذه القدرة عنهم وامتلاكها وتطويرها في رواياته وقصصه وأعماله جميعاً!
في أحد نصوصه المدهشة، يصف محفوظ أبناء هذا الزمان بأنهم أكبر من أعمارهم، فابن الخمسين يبدو كأنه ابن الستين أو يزيد!
يمكنك بالقياس - عزيزي القارئ - أن تستشعر مدى وطأة الإحساس بالزمن في لحظة منه تبدو كاشفة أو صادمة أو قاسية، ولك أيضاً أن تعتبرها جارحة!
الفن وحده (وفي القلب منه الأدب)، يمتلك القدرة على وصف عذابات هذا الإحساس، واقتناصه، وتصويره، والتخفيف منه أيضاً! من يستطيع أن يقتنص لحظة كهذه ويكتبها بكل هذه العذوبة والرقة والتعاطف سوى الأديب الفنان وحده، ومحفوظ كان فناناً من طراز رفيع! عاد ليمارس هوايته في نصوصه المتأخرة (أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة) ليهدينا نصوصاً من أروع وأعذب ما كتب عن حيرة الإنسان وقلقه وغربته واغترابه حتى عن ذاته وليس عن أحبابه فقط!
في النص الذي استشهدنا به في صدارة المقال يتحدث محفوظ عن عزلة الشيخوخة! يا ربي! كيف يقتنص الحال بكلمتين يلخص بهما التجربة الإنسانية منذ الميلاد وحتى الشيخوخة. ننخرط في الحياة نبدأ من اللاوعي وننتهي إلى اللاوهي وبينهما انغماس في الصخب والمكابدة والمعاناة! في وسط هذا كله قد تنسى حالك وذاتك وغايتك فتصير غريباً أو مغترباً!
وأخيراً لعل ما يمكن أن نختتم به هذا الحديث الموجز عن غربتنا نحن، واغترابنا نحن، أن نسجل ونعترف بمداهمتها لنا في فترة من العمر! فأنا على مشارف السابعة والأربعين.. قلْ أقترب من الخمسين بلا حكمة. وما زلتُ أسأل نفسي من أين أبدأ؟! إنها لحظة محتومة في العمر نصلها بإرادتنا، كانت أم رغماً عنا!
في ذروة النشاط والإنتاج والعمل، في ذروة السعي الذي لا ينقطع تجبهك الحقيقة العارية.. تقترب من الخمسين بقوة الجذب والسعي، تسعى بلا كلل، تندهش لأنك وحيد وغريب وأقرب إلى انتظار نهاية تلوح في الأفق منك إلى التطلع لأمل أو تفاؤل بمستقبل أو حصد لنجاح.. تنطوي على ألم غير مبرر دون شريك تحاوره أو تلتمس عنده العزاء. تحتويك غربة ممضة وسط عالم صاخب، ولا تدري متى ينتشلك اليأس من العذاب.. ولا تدري إنْ كان قدرك يهيئ لك قارب نجاة أم أن غرقك محتوم؟ 
اكتشفتُ، رغم انغماسي وسط بحر من البشر يومياً ومحيط لا ينتهي من الكلمات والنصوص، أني وحيد لا مؤنس لي ولا صديق قريب.. دون سبب مفهوم ولا منطق معقول تجد الألم يعتصر قلبك اعتصاراً، تبكي، البكاء يريح، الدموع تطفئ نار الألم، الدموع الممتزجة بملح العمر ومقطرة بآلامه.. لكن هناك دموعاً أخرى غير مرئية ولا ملموسة.. تنفجر من القلب، لا من الدموع، وتمر في الشرايين بوخز موجع لا أثر مسكن!
هذه لحظة مؤلمة جداً، لا تملك التوقف، لا مجال للراحة ولا وقت لهدنة! أتنهد وآخذ نفساً عميقاً، وأتوقف لأتذكر كلمات عبد الرحيم منصور التي شدا بها الفنان محمد منير في فيلم (حدوتة مصرية) للمخرج الراحل يوسف شاهين:
أعرف بشر عرفوني
قِبلوني وقِبلتهم..
لا يهمني اسمك..
لا يهمني عنوانك..
لا يهمني لونك..
يهمني الإنسان..
ولو مالوش عنوان!
هذه هي نقطة النور التي ننتظرها في مشوار العمر. هذا المعنى الإنساني في نقطة البازغة التي يحملها من يسوقه القدر إلينا ليخفف عنا‏، ‏من يقدم حاجة كل منا إلى التغلب على شعوره القاسي بالوحدة والغربة والاغتراب‏، ‏ويكون منبعاً للإلهام والقدرة على التجدد والتواصل والاستمرار.