للمتنبي كنيتان، إحداهما حقيقية والأخرى ثقافية، هما أبو الطيب وأبو محسِّد، فمحسد هو ابنه الطبيعي، كما ورد في الروايات عن سيرته، وهو الذي قتل معه حين واجههما فاتك الأسدي، بينما الطيب ابنه الثقافي، وهاتان الكنيتان تمثلان حالة الازدواج الثقافي في سلوكه الذي هو صورة للسلوك البشري الذي رمزت له قصة هابيل وقابيل بين شخصية تأثمت بسلوكها، وأخرى ضحية ونقية، وهذه حالة تصف البشر بين نفس شريرة وأخرى خيرة وتظلان تتصارعان، ويقع السلوك تحت تأثير أي واحدة منهما بين ظرف وآخر، ومن غلبت على سلوكه شخصية هابيل فهو الحليم، حتى وإن جهل حيناً، كما وصفها الشريف الرضي (وللحلم أوقات وللجهل مثلها/ ولكن أوقاتي إلى الحلم أقربُ)، وكل حليم يضمر في داخله جاهلياً مختبئاً قد يظهر في لحظات مفاجئة، ولذا قالوا (اتق غضبة الحليم)، أي حين يتحول هابيل إلى قابيل، وفي حال المتنبي حين يتحول من أبي الطيب إلى أبي محسد، ونحن نحب المتنبي ونتطبع بشعره وبشخصيّته الجدلية، لأنه يكشف حالنا البشرية، ومن ثم يجعلنا نشعر بأن تصرفاتنا واقعيةٌ بين الطيب والمحسد، وكل قراءة لسير البشر تكشف عن تناوب الصورتين عندهم، وتظهر جلياً في سير الشعراء والفلاسفة لأنها مكشوفة ومستدامة عبر تداولها من جهة، وعبر تقبلنا لها وغفراننا للكبار والنماذج الفكرية والأدبية، لأننا نحتاج لأن نغفرها لهم؛ لكي نتذوق إنتاجهم ونتعلم فكرهم رغم تشوهاتهم، ونعرف مثلاً سيرة برتراند راسل التي لا تتسق مع فكره الفلسفي ورقي نظرياته وإنسانيتها، ومع معرفتنا بسلوكه نظل نكبر قيمته العلمية، وكذلك فإن شخصية المحسد في المتنبي تختفي أمام شخصية الطيب، ويأتي أبو المحسد فيقول (والظلم من شيم النفوس فإن تجد/ ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ)، كما يأتي أبو الطيب الذي يقول (وما قتل الأحرار كالعفو عنهمُ). فالبيت الأول يجعل العادل معلولاً وغير سوي، بينما البيت الآخر يعلي من شأن قيمة العفو وهي أعلى درجات العدالة والإنصاف من النفس في كتم الغيظ. بينما نحن نتقبل الصيغتين معاً ونطرب لهما ونستشهد بهما، وهذا هو الازدواج الثقافي بين ظاهر واعٍ ومضمرٍ نسقي. ونداري ذلك بتغليب كنية أبي الطيب مع تجاهل الأخرى لأننا نريد أن نحصن ذاكرة المتنبي في ثقافتنا التي تمجده وتعمى عن عيوبه وتغض الطرف عن نسقياته من أجل جمالياته، وهذا تقصد غير واعٍ ولكنه فعالٌ ومهيمن.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض