بقلم: هيساشي ميزونو
ترجمة: أحمد حميدة
يعد «ماتسوو باشو» أعظم شعراء الهايكو. وقد عُرف خاصّة بالهايكو الذي أحدث ثورة حقيقيّة في كتابة قصيد الضّفدعة الذي ألّفه باشو سنة 1686، والذي ترك بصمة وضّاءة في تاريخ كتابة الهايكو. لم يكن الهايكو قبل باشو سوى لعبة كلمات تحيل على نصوص أدبيّة ذات طابع ظريف. وكان حينها لا يصنّف باعتباره جنساً أدبيّاً قادر على الإفصاح عن إحساس كونيّ. وبقصيد الضّفدعة، توفّق باشو في صياغة ضرب جديد من الهايكو شبيه بالتيقّظ الرّوحاني عند الزّن.
ولنعد إلى قراءة هذا القصيد الذي بات أشهر هايكو في تاريخ الشّعر الياباني:
(إيه.. البركة القديمة ضفدعة تنطّ صوت الماء)
لا بدّ من الإشارة أوّلاً إلى أنّه في اللّغة اليابانيّة، لا يتمّ دائماً تحديد عدد الأسماء، حتّى أنّه قد يتعذّر معرفة عدد الضّفادع وعدد الأصوات التي نسمع. وإذا كُنتُ قد أوردتّ الشّيئين بصيغة المفرد على غرار أغلب المترجمين، فذلك لأنّ الصّمت والسّكون المعبّر عنهما في هذا القصيد يتناسبان أكثر مع فرادة الضّفدعة والصّوت الذي أحدثته. ويكشف الصّوت هنا عن الصّمت، خاصّة وأنّ هذا الصّمت هو صمت عميق.
يعرض لنا هذا الهايكو مشهداً بالغ البساطة: في بركة قديمة، لا شكّ أنّها تقع في عمق الغابة، تنطّ ضفدعة وتحدث صوتاً حين حرّكت الماء. وعند متصوّفة الزّن، فإنّ العالم بأكمله يمكن أن يختصر في تلك اللّوحة المجرّدة من كلّ زخرفة أو توشية، وفي ذلك التّصوير الواقعي، الذي يثير في عالم الباطن إحساساً بالسّكينة والحزن، كشف عنهما صوت ضئيل أحدثته ضفدعة صغيرة.

(...)
ثمّة عالمين، عالم البركة وعالم الضّفدعة. وقد أشار أحد مريدي باشو إلى هذه الحقيقة، لقد ذكّر أنّه في نهاية شهر مارس 1886، وفي بيت صغير لباشو يقع بالقرب من نهر سوميدا إيدو، كان المعلّم يجتمع ببعض مريديه لتأليف قصائد قصيرة، على وقع أصوات الماء التي كانت تحدثها الضّفادع، حينها.. قام باشو بتأليف البيتين الثّاني والثّالث من ذلك المقطع الشعري الثلاثيّ. وكانت تلك الذّكرى توحي بوجود عديد الضّفادع وبالتّالي عديد الأصوات. وبعد فراغ المعلّم من تأليف هذين البيتين، اقترح أحد المريدين صيغة للبيت الأوّل: «آيه.. الورود الصّفراء..» ليقيم علاقة بين تلك الورود ونقنقة الضّفادع المبشّرة بقدوم الرّبيع.
وقد أحدث باشو تجديداً في أسلوب كتابة الهايكو حين تحدّث عن صوت الماء بالنّسبة إلى الضّفدعة، وقد نذهب إلى حدّ القول أنّ مدرسة باشو كانت يومها بصدد تجديد التّقليد النّاظم للشّعر، الذي يكون مقنّناً بصورة صارمة، ودائماً داخل شبكة من نصوص أدبيّة أخرى. على أنّ باشو لم يقبل اقتراح المريد، واقترح كبيت أوّل..«بركة قديمة». وتبيّن هذه الحادثة بشكل واضح وجود قطيعة بين البيت الأوّل والبيتين الثّاني والثّالث، وأنّ العلاقة بين البركة وقفزة الضّفدعة تشي بأنّهما لا ينتميان إلى نفس الحدث.
ولنعد من جديد إلى البركة، كان باشو ومريدوه ينصتون إلى تلك الأصوات وهم داخل البيت ودون رؤية الضّفادع، وأثارت تلك الحالة لديهم التساؤل التّالي: أين تكون تلك الضّفادع قد قفزت؟ ولنكرّر أنّ باشو لم يرَ الضّفادع وهي تغطس في البركة، وأنّه تبعاً لذلك لم يسمع صوتاً للماء. وفي تلك اللّحظة.. تواردت صورة البركة القديمة في ذهن الشّاعر، لم يكن للبركة من وجود حقيقيّ، إذ كان لا وجود لها إلاّ في قلب الشّاعر، وبالتّالي.. فإنّه ببيت «البركة القديمة» يكون عالم القلب هو الذي انفتح بالنّسبة لباشو، وبالنّسبة لتاريخ الهايكو.
مدرسة باشو
وإذا كان يقال أحياناً بأنّ هايكو الضّفدعة هو الذي أسّس لمدرسة باشو، فذلك لأنّ صوت الماء في العالم الماديّ كان يكشف، بـ «البركة القديمة»، عن عالم القلب فيقوم بإنعاشه. ندرك حينئذ أنّ القصيد لا يعني أنّه «ثمّة ضفادع تغطس في بركة قديمة، وأنّنا ننصت إلى صوت الماء»، وإنّما صوت الماء الذي نسمع في غمرة الصّمت المخيّم، هو الذي فتح عالماً متخيّلاً في ذهن القارئ. هنا يرتبط العالمان ويتماهيان بصورة منكتمة، حدّ أنّنا لن نلمس أيّ انقطاع بينهما. فهذان العالمان يشكّلان في الحقيقة عند الزّن عالما أوحد.

لقد غدا فنّ الهايكو جزءاً لا يتجزّأ من الفنون اليابانيّة بما استُودع فيه من جماليّة باهرة ورشاقة آسرة، وبما انطوى فيه من بساطة بالغة وتقشّف في الإفصاح عن حالات روحانيّة أنيقة.. سامقة. وقد مسك بول كلوديل بالطّبيعة الثّنائيّة للهايكو:
«يتألف الهايكو بصورة أساسيّة من صورة جوهريّة ومن رنينها في الكيان، فتغشانا ومضاته مثل لمع مجلّلة بهالة روحانيّة بالغة البهاء والشّفافيّة».
لا شكّ في أنّ كلوديل يظلّ مستنداً إلى تلك الثّنائيّة التي تميّز الفكر الغربي، فيميّز تبعاً لذلك بين الصّورة المرئيّة والهالة الرّوحانيّة، فيما تشكّل تلك الصّورة وهالتها، في الحقيقة، كلاّ غير قابل للتّجزئة. وكم يبدو مرسال بروست قريباً من كلوديل حين انتقد التباس الشّعر:
«هل أنّ الطّبيعة تحجب عنّا الشّمس أو آلاف النّجوم الملتمعة بلا أحجبة، تلك النّجوم التي يراها الجميع، ساطعة ومبهمة؟ ألا تجعلنا الطّبيعة نلمس بشكل قاس جبروت البحر ورياح الغرب؟ إنّها تجعل أثناء عبورها الأرض كلّ إنسان يفصح بجلاء عن أكثر ألغاز الموت والحياة غموضاً وغرابة. (...) وينبغي لي أن أشير خاصّة إلى ضوء القمر، حيث تحيل الطّبيعة منذ قرون، ورغم تلألئ ذلك القمر بلطافة على الجميع، الظّلمة ضياء، وتعزف على وتر الصّمت موسيقاها السريّة».
بإمكان هذه الخاطرة البروستيّة أن تقودنا إلى شفافيّة عالم الهايكو، إنّ الطبيعة لا تخفي شيئاً.. وليس ثمّة في هايكو باشو غير ضفدعة، ولا شيء يبدو في هذا الهايكو غامضاً كما هي كلمات بروست. وحتّى ألغاز الحياة.. فإنّها تبدو ظاهرة وبيّنة. ولكن قد تذكّرنا تعابير بروست..«تحيل الظّلمة ضياء» و«تعزف على وتر الصّمت موسيقاها السريّة»، بمحاورات الزّن وتكشف لنا عن روح الهايكو.
دون أن تكون لنا معرفة ببوذيّة الزّان، ندرك أنّ الهايكو هو دعوة إلى ولوج أسرار الحياة والطّبيعة، حيث يندمج في قلب الإنسان عالم الحسّ وعالم الرّوح ليشكّلا عالماً أوحد، كما هو الشّأن في حديقة الزّن بمعبد ريو - آن بكيوتو. فيما تبرهن أمثلة كلوديل وبروست عن إمكانيّة أن ينبض قلب الإنسان الغربيّ بشكل يجعله قادراً هو الآخر على الإمساك بروح الهايكو، ليرفل بملء كيانه في جمال هو في ذات الوقت شفّاف وناعم..