سعد عبد الراضي (أبوظبي)
يتنوع السرد الروائي بتنوع المضامين التي يحملها «فوق تراكيبه»، والتي يمكن أن نطلق عليها «المعنى الأول»، أو تلك الداخلة في ساحات البناء السردي، والتي تحمل المعاني الأكثر عمقاً، بيد أن المضمون الفارق الذي يحتضن المعنى الإنساني الخاص في فكرته، يحتاج إلى طرح متغير في ذاته وفي جميع مراحل البناء السردي، وأن يكون متوهجاً في أغلب تمثلات المعنى الذي تحمله المضامين. هذا ما تعكسه قراءة رواية «ملمس الضوء» للروائية الإماراتية نادية النجار. وتتشكل الرواية، التي أصدرتها منشورات المتوسط بإيطاليا، عبر أربعة أبواب هي: باب الصوت، باب الرائحة، باب المذاق، باب اللمس. وينضوي تحت هذه الأبواب عدد من الصور والعناوين التي توجه المضامين السردية إلى نهاية مثلى للرواية.
اشتغلت النجار على الفقد الإنساني غير المكرر كفقد الحبيب والقريب، حيث غاصت في بحر تجربة إنسانية مختلفة لارتباطها بفقد الإنسان لأحد مكوناته الأساسية، وما أصعب أن يكون الفقد لإحدى الحواس الخمس، التي تترجم المرئي لكل الأعضاء المشكّلة لمسيرة الإنسان في الحياة، فتتجلى المشاعر وتؤسس لكل القرارات الوجدانية وغير الوجدانية.
استطاعت النجار أن توظف كل الجماليات الأسلوبية في توظيف الفكرة لخدمة السرد الذي يعبر عن استنطاق الشخصية الرئيسة «نورة» لحواسها الأربع الأخرى، وهي الصوت والشم والتذوق واللمس لتعويض فقدان بصرها، وتشكيل ما يمكن أن نطلق عليه «أضواء البصيرة».
تقول نادية النجار، لـ«الاتحاد»، عن سبب اختيار الفكرة: «أظن أن الروائي عندما يكتب في موضوع ما، أو في فكرة بذاتها، لا يكون حراً بشكل كامل، فهنالك أشياء يريد أن يحكيها، أو أمور يريد أن يفهمها أكثر. ربما كنتُ أريد أن أفهم عوالم المكفوفين، ولم أجد من الكتب التي قرأتها والأفلام التي شاهدتها ما يشبع فضولي، فكانت نتيجة رحلة اكتشافي هي هذه الرواية التي ساعدتني على اكتشاف ملمس الضوء».
التجريد والاستكشاف
اتكأت النجار في رسم هذا الاستنطاق الذي أحدثته نورة من خلال «التجريد» حيث جعلت من الشخصية الرئيسة ناطقاً رسمياً لحالتها، ومن المؤكد أنها عانت وهي تخط روايتها، لأنها جردت من ذاتها شخصاً آخر يروي حكايته، حيث تقص نورة الأحداث من خلال صور فوتوغرافية يتعرف عليها تطبيق إلكتروني ويشرح محتواها، ليتعرف القارئ هو الآخر من خلال الأحداث إلى عوالم المكفوفين، ونظرتهم الفريدة لما حولهم في ظل غياب حاسة البصر، وتكشف نورة من خلال سردها التاريخ الشخصي لأفراد عائلتها، وسيرة جدّها الذي كان يهوى التصوير، حيث تعود بالزمن إلى الوراء، وتكتشف تاريخ الخليج العربي بصفة عامة، وتاريخ دبي قبل اكتشاف النفط، وكذلك البحرين.
وعن التأثر والتأثير بالسرديات الإنسانية التي يتشارك فيها الناس حول العالم تقول النجار:«لعلَّ ذلك أجمل ما في الرواية والأدب عموماً، حيث إن الأدب شكلٌ من أشكال التعبير عن الإبداع الإنساني، ولا حدود له. فعلى سبيل المثال أخذتني روايات نجيب محفوظ إلى حارات القاهرة المفعمة بالحياة، وروايات أمين معلوف التاريخية أرجعتني بالزمن إلى الوراء مع ليون الأفريقي أو سمرقند، وسافرت إلى أميركا اللاتينية مع روايات ماركيز». وتضيف: «قراءة الروايات تضع العالم كله بين يديك، فتتوسع معها مداركك ويتولد لديك تسامح مع الآخر، ونظرة مختلفة لما حولك».
وتتابع في هذا السياق: «ليس لديَّ كاتب مفضل، حيث يمر الإنسان بمراحل مختلفة في مسيرته القرائية، ولكن يمكنني أن أقول إنني تأثرت في صغري بالأديب الإماراتي محمد المر، وتعرَّفتُ على الأدب الإماراتي من خلال مجموعاته القصصية التي لامستني بشكل قريب، حيث كانت أسماء الشخصيات في كتاباته محلية، والأمكنة مألوفة. أحسستُ بأنني اكتشفتُ لأولِ مرة قصصاً تُشبهني أكثر من القصص الأخرى. أظن أن قصصه قد شكلت جزءاً مهماً من ذاكرتي القرائية. هناك كُتاب قرأت أ) لساراماغو و(اسمي أحمر) لأورهان باموق على سبيل المثال. لا يوجد كاتب بعينه، أنا دائماً في رحلة استكشاف كتب تستحق القراءة. ولا ننسى أن على الكاتب أن يكون موسوعياً ويقرأ في كل شيء، فقرأتُ أكثر في التاريخ والسير والتراث والشعر والفلسفة».
المشهد الروائي
عن المشهد الروائي حالياً تقول النجار: «بالطبع نرى بوضوح أن الرواية استحوذت على اهتمام القُراء في الآونة الأخيرة لأسباب كثيرة، منها أن الجوائز الموجهة لهذا الصنف الأدبي أكثر. ولكن يبقى للقصة القصيرة جمهور وفي، وأنا منهم». وتضيف: «أظن أن العمل الإبداعي الجيد يفرض نفسه بغض النظر عن كونه رواية أو قصة أو مسرحية، والمبدع صاحب المشروع الأدبي الجاد يمكنه أن يصل إلى المتلقي عن طريق القصة والرواية».
وتضيف: «اتجهت أنظار العالم إلى الأدب العربي بعد أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، وبعد أن تُرجمت رواياته إلى لغات العالم. وفازت العمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية لعام 2019 عن روايتها (سيدات القمر)، فكانت أول عربية تفوز بهذه الجائزة العريقة، ما ساهم في انتشار الرواية، وتعريف القُراء في الغرب على مناطق -نسبياً- غير معروفة أدبياً لديهم، وترجمة الأعمال الروائية هي الطريقة الوحيدة التي تجعل العالم يقرأ الروايات العربية، وتساهم في انتشار الأدب العربي، ولكن هنالك إشكالية في موضوع ترجمة الكتب من العربية إلى لغات أخرى. هنالك عوامل تساهم في عملية تسريع الترجمة منها حصول الكتاب على جائزة مهمة».
وعن ثقافة الروائي تقول النجار: «كيف يمكن أن تكتب رواية تصل كلماتها إلى أكثر من خمسين ألف كلمة دون أن تكون لديكَ معرفة جيدة عما تكتب، وإلا لن يخرج العمل بالعمق الجدير بالقراءة. بالنسبة لي قبل أن أبدأ بأي عمل إبداعي، أقوم بعملية بحث للموضوع الذي سأكتب عنه والمرحلة الزمنية التي سأكتب فيها. أنهمك في إعداد خطة الرواية، وبناء الشخصيات وكتابة الملاحظات، وجمع المواد والمعلومات التي قد أحتاجها. وكل ما سبق يكون عبر القراءة والاطلاع على المصادر المرئية والمكتوبة».
التخصص والموازنة
وعن كيفية موازنتها بين الكتابة في الرواية والقصة وأدب الطفل، تقول النجار: «كل ما سبق يندرج تحت الكتابة الإبداعية أو الأدبية، وتربطهم أو تجمعهم عناصر أساسية. ليس لدي مشكلة في الانتقال من نوع أدبي إلى آخر، طالما لدي معرفة بالأدوات والتقنيات التي أحتاجها. كتبتُ الرواية في البدء ثم انتقلتُ إلى أدب الطفل والقصة القصيرة والمقالة». وتضيف: «كتبتُ للطفل من باب التجريب ولم أكن أعرف أن الكتابة للأطفال ممتعة إلى هذا الحد، ومفرحة كذلك خاصة عندما أرى كلماتي تتحول إلى كتب مبهجة في أيدي الأطفال».
إنجازات وجوائز
نادية النجار كاتبة إماراتية، حاصلة على شهادة البكالوريوس في علوم الحاسب الآلي. صدر لها عدد كبير من الإصدارات في الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل. وهي عضو استشاري في المجلس الإماراتي لكتب اليافعين. حصلت على جوائز، منها: «جائزة معرض الشارقة للكتاب لأفضل كتاب إماراتي»، و«جائزة الإمارات للرواية العربية»، و«جائزة العويس»، و«جائزة الدكتور عبدالعزيز المنصور»، ووصل عدد من كتبها إلى القائمتين القصيرة والطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. وأدرجت قصتها: «النمر الأرقط» ضمن منهج اللغة العربية - الصف الرابع في دولة الإمارات العربية المتحدة.