علي عبد الرحمن 

«كان الغرب مكاناً وُلدت فيه الأساطير من رحم المشقة والأمل، حيث تتخفى حرية صياغة المصير خلف التلال التالية مباشرة، فسيفساء من الأحلام، حيث كل رجل يحمل بندقية يصبح قانوناً لنفسه، الغرب هو أفضل شيء حدث لأميركا على الإطلاق، بدأنا بلا شيء، والآن نملك كل شيء تقريباً، كان الغرب مكاناً للمغامرة والأمل، حيث يمكنك البدء من جديد وصنع شيء من نفسك، الغرب دائماً كان ملاذاً للشخصيات الهاربة»، كانت تلك الكلمات للممثل الأميركي ويل روجرز، الأساس الذي بنى عليه المخرج والفنان الأميركي كيفن كوستنر رؤيته لسلسلة أفلامه «الأفق: الملحمة الأميركية» (Horizon: An American Saga).
عُرض الفصل الأول من السلسلة في يونيو من هذا العام، وينتظر العالم عرض الفصل الثاني ضمن فعاليات مهرجان «البندقية» السينمائي الدولي في دورته الـ81، المزمع انطلاقه في 28 أغسطس الجاري وحتى 7 سبتمبر المقبل، أما الفصلان الثالث والرابع من السلسلة، فيُعرضان العام المقبل، ليكتمل العمل الذي يعد من أضخم المشاريع السينمائية التي تم إنتاجها عن الغرب الأميركي.
ويعود كوستنر إلى الإخراج بعد غياب عشرين عاماً منذ فيلمه «المدى المفتوح» العام 2003، يبحر بالمشاهدين في الفصل الأول من «الأفق» في رحلة سينمائية تمتد على مدى 15 عاماً، يروي خلالها قصصاً متعددة الوجوه عن التوسع والاستيطان في الغرب الأميركي، مستعرضاً حقبة الحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت بين العامين 1861 و1865، وما تلاها من أحداث، بأسلوب اختزالي حاد، يكشف عن الطبيعة المعقدة للصراع بين المستوطنين والأميركيين الأصليين، حيث تتشابك الأيدي بالدماء على الجانبين، مما يظهر أن العنف والدماء كانا جزءاً لا يتجزأ من تلك الحقبة التاريخية المهمة في التاريخ الأميركي.
«الأفق»، ليس مجرد استعراض للغرب الأميركي، بل تأمل فلسفي عميق في الأساطير التي صاغت الهوية الأميركية، من خلال المزج بين الماضي والحاضر، ويقدم كوستنر رؤية ديالكتيكية تعكس جدلية العلاقة بين الصراع والتقدم، حيث تتولد الأفكار من تفاعل الأضداد، ويصبح الغرب ليس مجرد مكان جغرافي، بل رمزاً لأميركا ذاتها، حيث تتصارع الحرية مع الفوضى، والأمل مع الخوف، مما يخلق مشهداً سينمائياً يعكس تعقيد الطبيعة البشرية في سعيها نحو الحرية والتوسع.
حكايات متشابكة 
ويعيد كوستنر، في هذه السلسلة، تأطير الغرب الأميركي كمرآة للروح الأميركية، مسلطاً الضوء على الجوانب الإنسانية والاجتماعية التي غالباً ما تظل مغفلة في روايات الغرب الكلاسيكية، عبر التصوير السينمائي البديع والحكايات المتشابكة، ويقدم «الأفق» تأملاً في الماضي، وجدلاً حول المستقبل، ليعيد تعريف معنى الحرية والمصير في السياق الأميركي.
ويعكس كوستنر، المعروف بحبه العميق للغرب الأميركي، هذا الحب في كل مشهد بالفيلم، حيث جسد جمال الطبيعة القاسية وروح المغامرة التي شكلت هوية الأمة، وبشكل فضفاض دون حبكة سينمائية متماسكة، وجد المشاهد نفسه في الفصل الأول أمام 3 قصص مختلفة، تدور أحداثها في فلك رحلة واحدة وعليه أن يفك طلاسمها وما يبرهن عليه المخرج من تلك السردية السينمائية، حول أسباب الحقد والضغينة للمستوطن الأبيض ضد السكان الأصليين، والنفعية والجشع في سعي صائدي الجوائز لحصد المزيد من رؤوس الهنود مقابل حفنة من الامتيازات النقدية والعينية، بجانب تصوير الغرب على أنه البؤرة الأعنف والمكان الذي لا يرحم أحداً، والنضال المتوحش من أجل البقاء على قيد الحياة، وكشف الحقيقة الصارخة للجوانب القبيحة للمستوطن الأبيض من أجل تحقيق مطامعه الاستعمارية.
مغامرة جريئة 
ترى الروائية المصرية أسماء علاء الدين، أن كوستنر قام بمغامرة سينمائية جريئة وطموح من خلال اعتماده على مبدأ فلسفي يعرف بـ «الديالكتيك»، أو الجدل، لتصوير التناقضات والصراعات البشرية كعوامل رئيسة في تشكيل التاريخ وإعادة بناء الحقب الزمنية.
وقالت: إن كوستنر لم يكتفِ بتقديم قصة تقليدية عن الغرب الأميركي، بل تعمق في استكشاف العلاقة المعقدة بين الأطراف المتنازعة، مستعرضاً وجهات نظر مختلفة حول تأثير الحرب الأهلية على المجتمع بأكمله، سواء من السكان الأصليين أو المستوطنين البيض.
وأشارت إلى أن الفيلم قدم تصويراً واقعياً لتطلعات الشخصيات المتنوعة في ظل الظروف القاسية التي واجهتها خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ أميركا، وقد تمكن كوستنر من نقل المشاهدين إلى عالم مليء بالتناقضات والصراعات، حيث يعاني الجميع من تحديات الانقسام العرقي والاجتماعي، ويحاولون التكيف معها وفقاً لرؤاهم الخاصة. 
وأضافت علاء الدين أن بعض الشخصيات في الفيلم تركت أثراً عميقاً لدى المشاهدين بسبب مواقفها القوية التي عكست الصراعات الداخلية والخارجية التي كانت تعيشها، ورغم أن إيقاع الفيلم كان بطيئاً في بعض الأجزاء، وأن مدته الطويلة قد أثرت على تركيز المشاهد، إلا أن الشخصيات استطاعت أن تحافظ على انتباه الجمهور من خلال تقديمها لأداء متميز ومعبرة عن عمق الصراع الإنساني.
وتوضح أسماء أن الفيلم لم يخل من بعض العيوب التي قد تؤثر على تماسك السرد القصصي للأحداث، فمن جهة، تلاحظ وجود بعض المشاهد التي بدت متناقضة في مضمونها، ما قد يربك المشاهدين ويجعلهم يفقدون التركيز على الخط الرئيس للقصة، ومن جهة أخرى، حجبت الفواصل الزمنية بين المشاهد عن الجمهور بعض التفاصيل المهمة التي كان يمكن أن تضيف عمقاً أكبر وتوضح أهمية تلك الحقبة بشكل أفضل.
ورغم هذه الملاحظات، أعربت أسماء عن اعتقادها بأن الفيلم يستحق التقدير، بفضل رؤيته الفلسفية العميقة وتصويره الواقعي للصراعات الإنسانية التي شكلت جزءاً كبيراً من تاريخ الغرب الأميركي، وأن كوستنر نجح في تقديم تجربة سينمائية مميزة، تعكس تعقيدات تلك الحقبة، وتثير في الوقت نفسه تساؤلات عميقة حول معنى الهوية والصراع البشري في سياق تاريخي بالغ الأهمية والحساسية.
الأساطير والتاريخ 
كشف المخرج المصري أمير رمسيس عن أن كيفن كوستنر، من خلال مشاريعه السينمائية المتعددة، يظهر ولعاً شديداً بالغرب الأميركي القديم، ولا يقتصر هذا الولع على التصوير البصري للمشهد التاريخي، بل يتعمق ليشمل استكشاف العلاقات الإنسانية المعقدة التي نشأت بين المستوطنين والسكان الأصليين في تلك الفترة، مما يثير تساؤلات جوهرية حول الصراع بين هذين العالمين المختلفين.
 ويرى رمسيس أن كوستنر لا يسعى فقط لإعادة إحياء الغرب الأميركي على الشاشة، بل يقدم من خلال أفلامه دراسة متأنية للتفاعلات والصراعات التي شكلت جزءاً كبيراً من تاريخ أميركا، وتسليط الضوء على حلم المستوطنين بالتوسع نحو الغرب، هذا الحلم الذي كان مرتبطاً بالبحث عن الثروة والفرص، وبناء حياة جديدة في أرض تعتبر بالنسبة لهم غير مكتشفة ومليئة بالإمكانيات.
وأوضح رمسيس أن المخرج لم يغفل الجانب الآخر من القصة، وهو تمسك السكان الأصليين بأرضهم وتقاليدهم الموروثة، تلك الأرض كانت مصدراً لهويتهم وثقافتهم، ومع قدوم المستوطنين نشأ صراع عنيف، عكسه كوستنر في أفلامه، وترك للجمهور مهمة استنتاج من المخطئ ومن يستحق العقاب.
وأضاف أمير أن كوستنر يحرص دائماً على تقديم شخصيات متنوعة ومعقدة تحمل قصصاً غنية تجسد الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجهها، ورغم أن السرد السينمائي قد يبدو معقداً نظراً لتعدد الشخصيات وتشابك الأحداث، إلا أن كوستنر أتقن الحفاظ على وضوح السرد، مما سهل على المشاهد متابعة القصة والانغماس في أجواء تلك الحقبة الثرية من التاريخ.
ومع ذلك، لم يسلم كوستنر من الانتقادات، حيث يرى بعض النقاد والجمهور أن أفلامه تميل إلى إبراز قصص المستوطنين البيض بشكل أكبر من قصص السكان الأصليين، مما خلق نوعاً من عدم التوازن في السرد، ويظل كوستنر صادقاً في تصويره للجوانب القاسية والجميلة لهذه الحقبة، محققاً توازناً بين تقديم تجربة سينمائية ممتعة وبين الالتزام بتقديم تصوير واقعي ومعبر عن التاريخ المظلم لأميركا.
الرمزية والفلسفة 
ويتناول الباحث السينمائي معتز عبد الوهاب جوانب التصوير السينمائي في الفيلم من منظور فلسفي، حيث يرى أن العناصر تتجاوز كونها مجرد مشاهد بصرية جميلة لتصبح تعبيراً عن رمزية أعمق ترتبط بالصراع الإنساني والطبيعة، وتعكس المساحات الشاسعة والجبال الشاهقة في الفيلم فلسفة «العظمة» مقابل «الصغر»، إذ تبرز اللقطات الواسعة عظمة الطبيعة في مواجهة هشاشة الإنسان، مما يجسد التناقض البصري الذي يعبر عن الصراع الداخلي للشخصيات التي تواجه قوى تفوق قدرتها على السيطرة، مما يعمق فهم المشاهد للعلاقة بين الإنسان والبيئة.
وأضاف عبد الوهاب أن المخرج استخدم الألوان الطبيعية، مثل الذهبي للفجر وأشعة الشمس في الأمسيات لإبراز جمال الطبيعة ونقائها، وهذه الألوان ليست مجرد جمال بصري، بل تعكس أيضاً فلسفة الحياة والتجدد، حيث تعبر لحظات الفجر والغروب عن بدايات جديدة ونهايات حتمية، مما يرمز لدورة الحياة والموت في عالم الغرب القديم.
وتظهر العواصف الشتوية القاسية في العمل فلسفة التحدي والقسوة، وتمثل القوى العظمى التي تعترض طريق الرواد، وتجسد فكرة الصراع من أجل البقاء في وجه ظروف غير متوقعة، وتعكس التغيرات الفصلية التناقض بين جمال الطبيعة وصعوبتها، مما يبرز فلسفة الازدواجية بين الحياة والجمال وخلطهما بالقسوة.