نوف الموسى
«هناك فرقٌ كبير بين «السكوت» و«الصمت»، السكوت عندما تكون قادراً على أن تعبر ثم تمتنع، أما الصمت فهو أبلغ مراحل الإعجاب، وبه يعجز الإنسان عن الحديث، وفي الكثير من الأحيان «الدهشة» بمقدورها أن تقودنا إلى الصمت، بهذه العبارة الساكنة في التساؤلات الأولى حول «الخط العربي»، أي قبل أن يخط الإنسان إحساسه، أزاح الفنان زكي الهاشمي، في حواره، تصوراتنا البديهية عن الكتابة، وكيف أن العرب قديماً - وتحديداً في التاريخ العربي قبل الإسلام - كانوا يذمون من يكتب الملفوظ، وأن الناس بدأت تكتب بعد أن وصلت فيه إلى أعلى مراحل «البيان»، فكل ما يعمل به اليوم في الجانب الفني، سواء خط أو غيره، أو مما يراد به التعبير عن القول بشكل عام، هو أدنى مرتبة أمام الجانب الصوتي، كون أعلى مرحلة وصل لها العرب قبل الإسلام، في المخزون اللفظي كانت «المعلقات».
وبالنظر إلى «القصيدة» فهي بيان الحال، بالمقابل فإن «الفن» هو بيان التجربة الحسية، والناس لم يستطيعوا إخراج بيان مشاعرهم وإحساسهم كفن، إلا في مراحل متأخرة جداً، ومنه فإن الفن لا يزال اليوم متأخراً، موازنةً بالبيان والبلاغة عند العرب عموماً، فلا يزال بيت شعري واحد تسير به الركبان، بينما اللوحات، رغم قيمتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، إلا أن أثرها محدود، وما نحتاجه هو تأصيل فني بمقدوره أن يكون ذاكرة لا تنساها الأرض.
إذاً، هل كل شيء اشرأب من «النقطة»؟ هنا توقف الفنان زكي الهاشمي في دلالة السؤال، بأنه مبحث فلسفي وفكري يعود إلى القرن السادس والسابع الهجري، ولطالما جاءت رمزية «النقطة»، بمقاربة الدوران حول الكعبة المشرفة، وكأنها «النقطة»، ممثلةً عمق فني مختلف، والناس يسعون لمعرفته عبر الطواف «الحركة».
ولمدة ظلت «النقطة» أصل تقعيد الخط العربي، ولأن «الدائرة» هي حركة الناس وسط ثبات الكعبة المشرفة، فالحركة هي الأصل في الخط العربي والفنون جلها، ومنها انتقل الناس، سواء في المهد الأول الهجري أو الثاني الهجري، من «النقطة» إلى «الدائرة»، وكأن «الدائرة» هي الملاذ الأخير لهم في العملية الإبداعية، حيث نجد أن الخطوط تعددت في احتمالاتها بين المستقيمة والزوايا وغيرها، ومن ثم صارت «دائرة» ولم ترجع إلى كونها «نقطة» أبداً.
اللغة والخط
وفي منظومة «الخط العربي»، فإن البعد الحركي متصل بأسس النص العربي، الذي بُني عليه الخط، فلا يمكن للخط أن يتجاوز اللغة في السعة، اللغة دائماً أوسع، وعزاء الخط أنه يتبع اللغة، وبمقدار ما هي واسعة فهو يريد أن يصل إليها، ومنه فإن تعريف الخط العربي أقرب إلى كونه بمثابة «فن يريد أن يصل إلى صورة اللغة»، لذلك كلما كانت اللوحة جميلة، نقول إن هذه اللوحة أقرب لفهم حقيقة المعنى، الذي من دونه، ربما يذهب الخط للمفاهيمي والشكل التجريدي، الذي بطبيعته له زمن وجمهور يتذوقه، ولكنه غير ثابت، بعكس ارتباط الخط في سعي لا ينتهي عبر اللغة.
بين «السعة في اللغة»، و«المعرفة العلمية للفنان»، في عالم الخط العربي، أين تكمن قوة الفنان الإبداعية، متى تحين اللحظة الذهبية في بناء احتمال جديد في جوهر المشروع الفني؟! تأتي إجابة الفنان زكي الهاشمي، بعد محاورة جمالية حول دراسته للغة العربية وآدابها، وظنه أن لا وجود للذة أعظم من الاستماع إلى الأدب، وحالة خروج الإنسان عن شعوره، وكيف جاء بعدها الخط ليزاحم تلك اللذة في الأدب لديه، أتمَّ من بعدها إلقاءه قصيدة للمتنبي، واستطرد: إنه لمن المهم إدراك حديث أحد الفلاسفة القدماء بأن الخط العربي هو «هندسة روحانية»، والروحانية هنا هي «القدرة العالية من العلم، التي تؤهل الفنان لأن يستطيع فعل ما يشاء في الفن». فهذا الشخص وصل إلى مكانة ترسخت عبر العلم، مكنته لعمل ما يشاء خارجه. الفن يتقاطع مع العلم، من خلال استلهام الإرشادات التي يحتاجها الفنان، ولكنه لا يعمل فيه، لأن العلم مسيرة متكاملة، بينما الفن عبارة عن متغيرات، فالعلم علمنا أن الناس يحبون الجمال، هذه حقيقة علمية يمكننا أن نطلق عليها «مقاصد»، ولكن كيف نستطيع أن نعطي الناس ما يحبونه، العلم لا يستطيع أن يقدم هذا الشيء، الفن يستطيع.
وللتنويه يقصد بمفهوم «العلم» هنا، ما وصل إلينا عبر الكتب والروايات والتراث والتقاليد والأمثال الشعبية وكل ما له علاقة بمسيرة الناس في الحياة.
هوية الفنان
كيف تتم التحولات في هوية الفنان واختلافها عن الخطاط، وارتباطها بالمتغيرات الجذرية لطبيعة المدخلات البصرية السريعة في العصر الراهن؟ في هذا التساؤل تحديداً، انطلق الفنان زكي الهاشمي، باتجاه التباين بين الخطاط وهو الحرفي، والفنان باعتباره يعمل خارج إطار ما هو حرفي، ويُشترط فيه أن يكون مفكراً، بعكس الخطاط فهو يبني على شيء موجود، يقلد مسيرة حاضرة، بينما الفنان يحاول أن يبدع في الفكر، ويحقق الوصول إلى القيمة العالية للنص.
ويتابع: كلما كان الفنان أكثر تكاملاً، كان أكثر إبداعاً، يأخذ من كل فن شيئاً، بعض الخطاطين مثلاً يشتغل في الخط ولا يريد أن يعرف شيئاً عن الزخرفة، أو عن النحت وغيرها، وبذلك فإنه فنياً لا يستطيع أن يخرج لاحتمالات إبداعية أوسع، والخروج دائماً لديه غير موفق، لأنه ليس مبنياً على أصل آخر لفن ممارس في الواقع، وربما ينتهي لدى البعض منهم بالوقوف عن ممارسة الخط - فعلياً - لا وجود لفن من الفنون استمر إلا وتكامل، وأي فن لم يتكامل، كان مصيره الزوال.
تفحص الخطوط العربية، على سبيل المثال، يهدينا أبعاد تداخل خطين لإنتاج خط ثالث، ويأتي أيضاً تداخل ثلاثة خطوط لإنتاج خط جديد، نجد أنه استمرار خط واحد لأكثر من 150 سنة، ما كان ليكون دونما أن يعضده شيء من الخارج، وكأنه أمة من الأمم، تتفاعل مع كل ما يحيطها، فمثلاً الخطوط في الجزيرة العربية تأثرت قديماً بالخطوط غير العربية، من مثل خط «المسند»، «الثمودي»، «اللحياني»، «النبطي».
ويلاحظ تأثيرها على الخطوط الأولى، فقد نراها قاسية، ويابسة، لأنها قائمة على الزوايا، بسبب ضعف الأدوات الموجودة، وكذلك وجدنا أن بعض الخطوط استخدمت لمدة 50 سنة وانتهت في وقتها، لأنها لم تستطع أن تتداخل مع فنون وأشياء أخرى تجعلها تبقى، أي فن أو مهارة ترتبط بشيء لا ينتهي.. لا تنتهي.
المدخلات البصرية
يواصل الفنان زكي الهاشمي: الحديث عن المدخلات البصرية في العصر الراهن، تنقلنا ببديهية لعولمة العالم عبر منصات التواصل الاجتماعي، فنحن لا ننظر إلى شيء واحد فقط، مثلما هو البدوي قديماً عندما يتأمل الفضاء الشاسع، والأشياء تتكرر عليه كثيراً. نحن نرى أشياء جديدة، مأخوذين بجنون نحو هذه الخيارات المتغايرة، ما نتج عنها رغبة الإنسان في التوقف عن العمل أو الاشتغال على تطوير الحالات الإبداعية، كون هذه المدخلات البصرية، تشعرنا بشيء من الإحباط لكثرتها وآنيتها، مزاحمةً أفكارنا باستمرار، والإشكالية ليس في تحدي المخزون البصري المهول، ولكن الفكرة في كيفية «استحسان المخزون»، بمعنى كيف أستطيع أن أخذ الأجزاء من كل هذا المخزون، للخروج بشيء أنا أستحسنه، أنا أرى اليوم شجرة، تعجبني فيها جزئية الغصن، بالتوازي هناك مئات الصور المتخيلة لها، التي يمكن أن استحسن العمل عليها ضمن قالب معين، قررت العمل عليه - خلال ذلك - الصور مستمرة في التوافد ضمن المخزون العام، فالأمر السلبي اليوم هو عدم قدرة الناس على مواكبة هذا المخزون، مما يؤدي بالفنان إلى كسر القالب، ومحاولة بناء قالب أوسع جامع لعوالم متعددة، فبإمكان فكرة صغيرة جداً أن تؤثر على عمل بين يدي، ولو بنسبة بسيطة، ما يجعلني أمسك عن استكماله، لأقرر على أثره الابتعاد قليلاً عن منصات التواصل الاجتماعي، لأبدأ في ترتيب مخزوني، والاتصال مجدداً بفضاءات الحالة الإبداعية الخاصة بي.