د. عزالدّين عناية

يمثّل المصلّى بوجه عام فضاء قداسياً يعانق فيه المؤمن بارئه بغبطة وانشراح، لِما يغمره في ذلك المكان من سكينة روحية، لا تضاهيها إيحاءات الفضاءات الأخرى ذات الطابع الدنيوي أو النشاط العملي قيمةً.
والمصلّى بشكل عام هو مولِّد شعوراً روحانياً نابعاً من كون المرء يحضر في فضاء مفعم بالرمزية القداسية، ولذلك تجد الآية القرآنية «وأنّ المساجد لله» (الجنّ، 18) صريحة الدلالة في هذا السياق. بما يولّده ذلك الفضاء في نفس المؤمن من مشاعر الخشوع والانشراح تتخطى التوصيف العادي، وتتجلى بوضوح في السلوك العملي لمرتادي تلك الفضاءات، وفي الملامح الفيزيولوجية للمتصوّفة والعبّاد.
لذلك ينتاب السّاعين إلى المصلّيات، سواء كانت بِيعاً أو كنائس أو مساجد أو ما شابهها، شعور بالارتياح والابتهاج. وهي حالات شعورية إيجابية، جرى رصدها في علم النفس الديني في أوساط المتعبّدين من مختلف الأديان والمعتقدات. إذ يستحضر المؤمن، بموجب تأثير المكان، وبفعل الأجواء المحيطة، وكذلك جرّاء الانضباط بأداء سلسلة من الشعائر المصاحبة، من لحظة دخول المجال القدسي إلى حين مغادرته، أنه في حضرة قوّة غامرة، هي في واقع الأمر حالة استحضارٍ لتمثّلات روحانية شفّافة، تضع المؤمن في أجواء من التوهّج الروحي الإيجابي. تنفتح بموجبها الذات الإيمانية على كلّ ما هو سامٍ وطهريّ، وبالمقابل تُحجم عن إتيان كلّ ما سلبي أو مؤْذٍ. لذلك تجد المؤمن في فضاءات القداسة الغامرة - نقصد المصليات، خصوصاً منها ذات القدسية التاريخية أو الجمالية العمرانية - أكثر نزوعاً للإحسان، وأحرص على التفكير في إتيان العمل الصالح، وبالمقابل أكثر مراعاة لاجتناب المحرّمات وهجران الآثام.

فضاء حاضن
حين يرتاد المرء المصلّيات، سواء كانت قديمة أو حديثة المنشأ، تأخذه موسيقى الجدران الصامتة بعيداً إلى عوالم بهيّة مضمّخة بعبق القداسة، لا يقدر المتأمّل التملّص من سحرها. إذ عادة ما تكون تلك المعالم هي نتاج فنّ عميق وإبداع رشيق. مرّ إخراجها في هياكل وعمارة برحلة عميقة في روح الفنان ومخياله. لذلك يجد المرء هدوءاً وسكينة في أحضانها ليعانق روحانية طاغية توحي إليه بمحبّة العالم واحتضان الخَلق، بما ينزع من سريرته ذلك الشعور بالانطواء. فأن نجول في ردهات تلك المعالم، ونتأمّل فضاءاتها، ونستحضر تاريخها، وكأنّنا نغوص في بهاء لوحة فنية تُفقد المرء الإحساس بحدود الزمان والمكان، ولذلك لفضاءات العبادة سطوة قاهرة مشرّعة على المطلق، حتى وإن احتضنتها جدران أو أوصدتها أبواب.
كذلك ثمة بهجة يعيشها المؤمن أثناء أداء شعائر العبادة، ولنقل حفاوة روحية يلقاها المتعبّد عند اللقاء ببارئه، حين يضمّه فضاء حاضن وليس فضاء طارداً، وحين يغمره مكان عامر بالسكينة والترحاب، وليس فضاء صاداً أو داحراً.
صحيح أن العبادة هي علاقة حميمة قائمة بالأساس على صلة شفّافة بين العبد وبارئه، من خلالها يناجيه ويدعوه، ويكاشفه ويتضرّع له، ولكنّ الفضاء القداسي بإيحاءاته المهيبة يزيد من توهّج تلك العلاقة ويقوّيها. ولو تمعنّا في التنوّع الكبير والثراء العمراني الديني الهائل في الحضارة الإسلامية، لأدركنا جلياً أنه بحقّ ثروة فنية وروحية وعمرانية لا تقدّر بثمن، تزخر بها مختلف المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي دفع الخبير والمتخصّص في الهندسة المعمارية الإسلامية، الهولندي إريك بروغ، في كتابه «الهندسة الإسلامية.. تاريخ عالمي» (تورينو، 2023)، إلى القول: «في واقع الأمر من الإجحاف الحديث عن «عمارة إسلامية» بالمفرد، وإنما الصواب الحديث عن «عمائر المجتمعات الإسلامية»، نظراً للثراء الباذخ والتنوع الهائل لتلك الإبداعات العمرانية أنّى ولّيت وجهك».
ويضيف بروغ، مثمناً هذا الثراء، أنه عندما هَمّ بانتقاء صور المعالم التي سيضمّنها كتابه، آنف الذكر، واجهته صعوبة، تتلخّص ليس في ما سيُضمّنه من معالم في كتابه، ولكن ما الذي يستطيع إسقاطه واستبعاده أمام الكم الهائل للمعالم الباهرة المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، مبرزاً أنّ حضور دور المرأة في المعالم الإسلامية كثيف ومتعدّد، وليس كما يشيع أنها عمارة أقامها رجال أو أنجزت بإيحاء من الذكور فحسب، ويضرب أمثلة عديدة على ذلك منها «جامع القرويين» في بلاد المغرب الذي ينسب تأسيسه إلى فاطمة الفهرية القيروانية، و«تاج محل» الذي يضمّ رفاة الأميرة ممتاز محل، وهي المرأة التي ألهمت زوجها تشييد ذلك المعلم، حتى غدا مزاراً في الهند يعرفه القاصي والداني.

خصوصيات مشتركة
والملاحظ في المعالم الدينية الكبرى، في مختلف الأديان، أنها فضاءات تحوز خصوصيات مشتركة جامعة، وهي العلوّ والسعة والرحابة، وهي عناصر أساسية في الإيحاء للمرء بالامتلاء أو ما يشبه الإشباع النفسي الروحي.
الأمر ملحوظ في العديد من المعالم الدينية، إذ تجد أتباع الأديان يحرصون على العناية ببهاءِ الجانبِ العمراني حين يزمعون على تشييد هياكلهم الدينية. وهو ما يتلخّص غالباً في تكثيف العناصر الرمزية في مصلياتهم ومعابدهم التي تتراوح بين المجسّم والمجرّد بحسب فلسفة الاعتقاد السائدة.
صحيح تتغاير، في ذلك التكثيف الرمزي، مفاهيم الفنون الدينية من دين إلى آخر، ولكن ثمة عناصر يتوسّل بها الفنان وَصْل المؤمن والمتعبّد بفلسفة معتقده، ولذلك تحضر الصورة والأيقونة والتمثال في معابد الأديان المجسّمة، في حين يحضر الفنّ التجريدي بإبداعاته التشكيلية والهندسية الفائقة في الأديان المنعتقة من التجسيد والتجسيم. ومسألة التجريد والتجسيد في فضاءات العبادة هي مسألة في منتهى الدلالة والصرامة أيضاً من حيث التعامل معها، بالنسبة إلى مختلف الأديان.
يذهب المفكر الإيطالي الراحل ماسيمو كامبانيني في كتاب بعنوان «الجماليات في الإسلام.. بين التجريد والتجسيد» (بريشيا- إيطاليا، 2021) إلى أن التجسيم ضمن فلسفة الفنّ الإسلامي هو منبوذ ومبغَض حين يغدو تحويراً لجوهر الدين أو تدنيساً لخُلقيته ومُثُله. مبيناً أنّ الجماليات الإسلامية تحرص غالباً على هجران الجمالية الحسيّة المنحصرة بإطار دنيوي إلى معانقة جمالية منفتحة على المطلق، وهي في الآن نفسه تنفر من مفهوم الجماليات الجوفاء المحلّقة في العدمي، لأنها جماليات محكومة بإيطيقا صارمة تُوجِّهها ولها خاصيات مضبوطة تجمعها، ما يجعلها وسيلة تَرقى بالإنسان إلى انفتاح روحي متطور واستيعاب للمغاير في أعلى تمثلاته.
وفي ظل مبدأ التعالي الذي أرساه الفنانون والمبدعون المسلمون، على مدى قرون، في النفور من التجسيد والميل إلى التجريد، حرص الرواد، ولا سيما في عهود الإسلام الأولى، على الحفاظ على الموروث الفني للحضارات السابقة، سواء في المشرق أو المغرب، وسعوا جاهدين في توظيف ذلك المخزون الفني السابق بشتى أشكاله في مساجدهم ومزاراتهم وزواياهم، وعموماً في معالمهم الدينية، ولكن عبر عملية تهذيب وتقويم لتلك الفنون، ارتقوا بها من مستويات التجسيد إلى مستويات متسامية مطلقة، وحرصوا على إعادة توظيفها ثانية ضمن معايير توحيدية إسلامية خالصة.
يقتضي الحديث عن موضوع المعالم الدينية التطرق إلى نقطة مهمّة بخصوص مفهوم الفنّ الإسلامي، فهو ليس فناً دينياً صرفاً، بالمفهوم الغربي الذي ينظر به إلى فنون الأديان، بل الفنّ الإسلامي هو فنّ منفتح على الدنيوي بالأساس ويحضر في صنائع ومجالات عدّة، ولا يمكن نعته بأنه فنّ ديني حيث لا يوجد في الإسلام التوسّل بالفنون لأداء الشعائر، ولذلك نرى الفنّ الإسلامي في علاقة وثيقة بالفعل البشري.