إيهاب الملاح
«عمّ تبحث أيها الرحالة؟ أيُّ العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف تسوس غرائزك وشطحاتك؟ لِمَ تقهقه ضاحكاً كالفرسان؟ ولِمَ تذرف الدمع كالأطفال؟»
(افتتاحية رواية «رحلة ابن فطومة» لنجيب محفوظ، ص1، دار الشروق، القاهرة)
بعض النصوص العربية يمثل «النص المركزي» في تراث الإنسانية فيما يعرف الآن بسرديات «أدب الرحلات».. وجد القاص الشعبي في الشرق والغرب مادة وفيرة لمناظر القصص وحوادثها حول صراع الإنسان مع البحر.. الخليج العربي كانت له الصدارة في قصص التجار في الأدب الشعبي، ووجدت فيه مصدراً خصيباً للخيال.
(1)
عبر ما يقرب من القرون العشرة، لم يخل تراثنا السردي (الأدبي، القصصي) من نصوص ملهمة في أدب الرحلة والرحلات، سواء منها ما ابتغى الوصف والدراسة والتحليل (وصف الأرض ورسم الخرائط وتحديد المواقع)، أو ما أطلق لخياله العنان، وتحرر من أي قيد أو تقييد وأبدع في تخيل فضاءات وعجائب وغرائب، وما لم يتسن الحصول عليه بالمشاهدة والمعاينة والرصد والتوصيف، يمكن الحصول عليه من خلال الوهم والتوهم والتخيل والتخييل!
طاقة إبداع عجيبة ومدهشة أتاحت لنا نصوصاً لا مثيل لها في جمالها ووقعها وأثرها، بل إن بعض هذه النصوص قد أصبح يمثل «النص المركزي» في تراث الإنسانية فيما يعرف الآن بسرديات «الرحلة» و«أدب الرحلات» وفانتازيا العجائب والغرائب!
فمن يملك «ألف ليلة وليلة»، ورحلات السندباد البحري، وكتب غرائب المخلوقات وعجائب الموجودات، ورحلات البغدادي، وابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، والنابلسي.. إلخ، وكتب تدوين رحلات الحج والارتحال في طلب العلم، فضلاً على نصوص كتب عجائب الهند والصين.. إلخ، وكتب البلاذري وياقوت الحموي والبيروني والمسعودي وأضرابهم في كل قرن هجري، أقول إن من يملك هذا الرصيد الوافر من النصوص المدهشة حري به أن يتصدر قائمة أكثر الأمم إبداعاً وخيالاً وانطلاقاً وليس العكس!
(2)
تراث زاخر من القصص والحكايات في تراثنا العربي، الرسمي والشعبي، المدون والشفاهي على السواء، التي تمحورت حول «الرحلة»، و«الارتحال»، والسعي وراء المجهول، والبحث عن «غرائب المخلوقات وعجائب الموجودات» (إذا استعرنا عنوان كتاب القزويني الشهير)..
و«الرحلة» هنا، و«الارتحال» بالمعنى الحقيقي والمجازي على السواء، وقد توفر على درس هذه التراث ووصفه وترسيم حدوده باحثون كثيرون في العالم العربي، بل وفي أوروبا وأميركا أيضاً (ثمة كتب مهمة باللغة العربية عرضت للرحلة وأدب الرحلة والرحلات، لا يتسع المجال للوقوف عندها تفصيلاً، لكن تكفي الإشارة إلى كتاب المرحوم سيد حامد النساج «مشوار كتب الرحلة قديماً وحديثاً»، وهو كتاب تعليمي بامتياز، ومثله كتاب المرحوم الدكتور شوقي ضيف «الرحلات»، وأخيراً كتاب الدكتور حسين نصار عن «أدب الرحلة»، هذه مجرد نماذج وعينات، والحديث يطول حول ما أنجز من كتب ودراسات حول الرحلة وأدب الرحلات).
أشكال وألوان من الرحلة والرحلات، منها: «الرحلة البرية»، و«الرحلة البحرية»، ومنها «الرحلة للحج»، و«طلب العلم»، و«مجاورة البيت»، ومنها «الرحلة في سبيل البحث واكتشاف المجهول، ومنها«الرحلة الواقعية»، و«الرحلة الخيالية».. إلخ.
والمساحة تضيق عن الوقوف تفصيلاً عند كل هذه الأشكال والألوان من الرحلة والرحلات، كما تضيق عن السرد التاريخي ومراعاة الترتيب الزمني، فذلك يستدعي دراسة تفيض مادتها عن حيزنا هذا، فليكن الانتقاء والتحديد سبيلنا إلى التركيز وتسليط الضوء على عينة شائقة من هذه الذخيرة الوافرة!
نقف أمام عينة دالة من أدب الرحلة تقع على التخوم بين الواقعي والخيالي، وتمثل الحد الفاصل بين البري والبحري، وتمزج ببراعة بين الوصف والتعيين والتخيل والتوهم وإبداع لا يحد.. إذن نحن بصدد الحديث عن «الرحلة عبر البحار»، أو أدب الرحلة البحرية أو القصص البحري..
(3)
وإذا كانت الراحلة الدكتورة سهير القلماوي، رائدة دراسات الليالي، وأول من يتوفر على درس حكايات وقصص «ألف ليلة وليلة» وتحليل موضوعاتها، فإنها لم تهمل الوقوف عند ذلك اللون من القصص الذي تمحور حول «الرحلة» و«الارتحال»، وبخاصة تلك التي تجوب البحار وتواجه الأهوال وترى العجائب والغرائب، ونتج عن ذلك ما عرف بالقصص البحري، والحكايات التي تمحورت حول البحر، وبخاصة في الليالي، حتى وإن لم تفرد لها باباً بذاتها في أطروحتها التأسيسية الشهير حول «ألف ليلة وليلة».
ذلك أنها وبعد سنوات من إتمام أطروحتها استكملت جانباً أو أكثر من جوانب الدرس والتحليل في قصص (الليالي)، ومنها قصص الرحلة البحرية في التراث الشعبي عموماً، وليس في«ألف ليلة وليلة فقط، وذلك في مقالة مهمة نشرتها في الستينيات من القرن الماضي، لكنها احتوت على إشارات وأفكار في غاية الأهمية، خاصة فيما يتصل برصد واستخلاص سمات وخصائص الرحلات البحرية والقصص البحري والحكايات البحرية في التراث الشعبي.
وكانت«البحار» مهاد أحداث يمكن أن تجمع في يسر طرافة الموجودات وشذوذ الأحداث وتلاطمها واصطخابها، فالبحر «يُعرف أوله ولا يُعرف آخره، يُرى سطحه ولا يُعرف ماذا في قاعه، وهو في بعده وعمقه وتلاطم أمواجه وعواصفه حقيق بأن يوحي بالغموض والإبهام، وبضعف الإنسان لولا رحمة الخالق، وهو حريّ بالتأمل المؤدي إلى الاعتراف بعظمة الكون»،
لذلك وجد القاص الشعبي -في الشرق والغرب- مادة وفيرة لمناظر القصص وحوادثها وأبطالها في هذه البحار، وصراع الإنسان مع البحر، وتأمله لعظمته وضياعه في تيهه، كانت موضوعات قصص شعبي وغير شعبي على مدى العصور وفي مختلف البلاد.
(4)
وتسلط القلماوي أضواء معرفتها المنهجية لتكشف طبيعة العلاقة بين الموتيف البحري الشهير المتمثل في «ينزل البطل إلى البحر وسرعان ما تعصف به الرياح، فإذا هو ضال على شفا الموت يكاد يموت ويفنى ولا يدري به أحد لولا ما تعلق به من بقايا مركب»، وإذا قدرات الإنسان كلها في حالة طوارئ قصوى، يعمل قوته البدنية والعقلية ليجد الخلاص، والبحر يمده بالأمل حيناً، وباليأس أحياناً ولكنه يصارع»، وبين رؤية القاص الشعبي أو الخيال الشعبي لطبيعة هذا الصراع..
فالقاص الشعبي -وفق الدكتورة القلماوي- لا يعنيه هذا الصراع مهما تفنن فيه بما شاء، صراع مع البحر أو حيوانات البحر، أو في سبيل لقمة العيش..
وليأخذ هذا الصراع دلالاته الرمزية الراقية، كما نجد في رواية حديثة مثل «العجوز والبحر» لهيمنجواي، أما القاص الشعبي فلا قبل له بكل هذا، وسرعان ما يُدخل «القدر»، أو «الصدفة» ليحل الموقف موقف الصراع، فهناك دائما «شاطئ» على البر، وهناك دائماً «جزيرة» تلوح من بعيد كسراب، ثم يصل إليها، وفي تلك «الجزيرة» يصادف البطل العجب من المرئيات والمحسوسات والعجب أيضاً من الأحداث.
وتستقصي القلماوي مفردات وتفاصيل هذه «الغرائبيات» و«العجائبيات» التي يواجهها بطل هذه الرحلات «المتخيلة»، فهو «يصادف قوماً شذاذ الخلقة يشابهون الإنسان في أشياء، ويختلفون في أشياء أكثر، يشابهون الطيور والحيوانات المعروفة ويختلفون أكثر، ويتفنن خيال القاص في التركيبات التي يخترعها من الإنسان والحيوان والطير لخلق مخلوقاتٍ لا ظل لها في الواقع، ولا وجود لها إلا في رؤاه. ولهؤلاء القوم أو الحيوانات عادات وتصرفات تدفع بالحدث نحو التوتر والقمة، وسرعان ما يجنح القاص بعد أن يستوفي حظه من الطرافة والجدة إلى أن يوصلنا إلى ختام أو شبه ختام سعيد لأهوال البحر وصراعات البقاء».
وطبقة التجار، وهم أبطال القصص وأبطال الحياة في كثير من أزمانها القديمة، عرفت البحر في أسفارها وارتحالاتها ومارست أهواله في سبيل الرزق، وشهدت كثيراً من عجائبه. لذلك فهي تحن إليه، وإلى أخباره دائماً. إنها لا تسافر فيه فحسب، ولكنها تسمع كثيراً أيضاً أخبار من سافروا، ونحن إذا ذكرنا البحر ورحلاته في الأدب الشعبي لا بد ذاكرون بطله العربي العالمي الآن وهو «السندباد البحري» الذي أصبح اسمه علماً على السفر الكثير، بل إنه صار أيقونة أدب الرحلة الخيالية ورمز «الرحَّالة» في المخيال الشعبي العربي والإنساني عموماً.
(5)
و«الرحلة البحرية»، أو «الارتحال عبر البحار» التي عرفها القصص الشعبي تمتاز كل منها عن الأخرى امتيازاً واضحاً يعود إلى طبيعتها ومكانتها من الكرة الأرضية، وكان لكل «بحر» في هذه القصص ميزة واضحة خاصة به تسيطر وحدها على سير الأحداث فيه. فلا مجال في القصص الشعبي لتزاحم الخصائص وصراع الأضداد. «البحر» كفضاء للارتحال له ميزة غالبة هي وحدها التي تكيف الجو كله، وتدير الحوادث كلها، فما يقع في «الخليج العربي» وما يطل عليه من «محيط» يختلف تماماً وكلياً عما يقع في البحر الأبيض المتوسط أو «بحر الروم» كما عرفه المؤرخون المسلمون والقصاص العرب، كل هذا أيضاً يجب أن يختلف بوضوح عما يقع في «بحر الظلمات»، وما ورائه أو المحيط الأطلنطي.
أما الخليج العربي فقد كانت له الصدارة في قصص التجار في الأدب الشعبي، والمغامرات التجارية والإنسانية عامة، وجدت فيه مصدراً خصيباً للخيال المتنوع والأحداث المختلفة المشوقة.
وتتوالى الأحداث من حب ومغامرات إلى سرقات وعصابات، كل هذا في استعراض مثير حي - يا ليت قصاصي اليوم يعرفونه ويستغلون مادته، ويستلهمونه في خلق واقعية سحرية عربية خالصة.
وتتوالى الحوادث وفيرة الخيال عجيبة التركيب، والتاجر يعود من هذه البحار والمغامرات والرحلات عادة بمادة غريبة لا يعرفها القوم الذين يصل إليهم، وقد كانت في الجزيرة التي عثر عليها فيها مادة مهملة لا ثمن لها ولا وزن، فيحمل منها ما شاء أحمالاً، حيث يوصلها ويبيعها بثمن خرافي مستغلاً القاعدة الأولية البسيطة في عالم التجارة من أن ثمن المادة يحدد بسوق العرض والطلب ومدى الحاجة إليها في مكان دون آخر، وعند قوم دون آخرين، ويعود إلى بلده آخر الأمر، قرير العين مرتاح البال مملوء الخزائن.
وسكان هذه الجزر إذا سمعوا من الخليفة البغدادي، وهو هارون الرشيد دائماً في القصص الشعبي (أو لا اسم له) وإنما يكفي أن يقال مولانا الخليفة) فإنهم يعظمونه ويبعثون إليه بهداياهم، وتحفهم ويكرمون هذا الوافد من مدينة السلام الذين يعرفونها ويعرفون قدر سكانها.
في الختام الحديث عن فضاءات وتضاريس الرحلة والارتحال بين «جغرافيا الوهم» والخيال، وبين «عين الجغرافيا المبصرة» الكاشفة يظل مفتوحاً على كثير من الرصد والقراءة والتحليل.