ترجمة وإعداد: د. عزالدين عناية

العالم الجليل أحمد بن ماجد بن محمد السعدي، الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، هو أحد الملاحين وعلماء البحار الذين أزيح عنهم غبار الزمن منذ فترة ليست بالبعيدة. وهو واحد من ضمن سلسلة طويلة من علماء العرب ممن كشف عنهم باحثون غربيون وأعادوهم إلينا. فقد خصّص المستشرق الفرنسي غابريال فيرّان (Gabriel Ferrand) في مؤلف «التعليمات البحرية والمسارات العربية البرتغالية» الذي ضمّ أربعة مجلدات، فضلاً عن أعمال أخرى، قسمًا مهماً لِعلم الملاحة عند العرب وللرواد في المحيط الهندي وللمخطوطات العربية في الشأن. وضمن العناية بهذا المجال العلمي أنجز الباحث الفرنسي ميشال كومنوغ (Michel Com’Nougue) رسالة دكتوراه بعنوان «طرق الملاحة الجديدة في القرون الوسطى» (2012)، تمحور قسم واسع منها حول الإضافات المعرفية والابتكارات العلمية لابن ماجد نقتطف منها النص الوارد لاحقاً. أتساءل أحيانا ما الذي يفعله الجامعي والأكاديمي العربي بوقته؟ حين أتأمل كمّ المخطوطات المتناثرة هنا وهناك في مكتبات العالم، وحجم الحقول البحثية المؤجَّلة، والقضايا المسكوت عنها.

مصادر رئيسة
فيما يخصّ الملاحة الفلكية عند العرب، لدينا بحوزتنا ثلاثة مصادر رئيسة معروفة، أوّلها يعود إلى الملاح والجغرافي أحمد ابن ماجد مؤلف العديد من الرسائل في علم البحار، وقد عاش بين 1422 و1500م تقريباً، وعايش فترة بلوغ الفرنجة المحيط الهندي. وأمّا المصدر الثاني فهو يتكوّن من مخطوط لسليمان المهري اللاحق، بفترة قصيرة تناهز الجيل. في حين الشهادة الثالثة فهي غير مباشرة، وهي تدعم المصدرين السابقين. وهي تعود إلى المؤرخ البرتغالي جواو دي باروس (João de Barros) الذي جمع أخبار رفاق فاسكو دي غاما وقدّم وصفاً مقارَناً بين التكنولوجيات العربية والتكنولوجيات الغربية، استناداً إلى محادثات بين البحارة البرتغاليين التابعين إلى فاسكو دي غاما والبحار الغوجاراتي الذي رافق الأسطول البرتغالي من ماليندي إلى الهند.
نشير إلى أنّ علم الملاحة الذي أرساه ابن ماجد هو علم تطبيقي بالأساس، وبحسب ما يذهب إليه، فإنّ الرواد الذين ينعتهم بالأسود الثلاثة هم علماء في المجال وليسوا مجرّد بحارة. فقد لاحظ الرجل أيضاً أنّ هذا المجال هو علم مستقلّ بذاته، من حيث المناهج والأدوات والقياسات المتصلة بعلم البحر وعلم الفلك، وهو مما يختلف بشكل عامّ عمّا يستخدمه البحارة. فقد استقلّت تقنية الملاحة الفلكية بالتدرج عن حقل متوارث على صلة بطريق الشرق. اعتمد فيها البحارة العرب إبحارًا يمكن نعته بالمائل. وبحسب هذا التقليد، يسلك البحار طريقه استناداً إلى مؤشرات البوصلة بغرض الوصول إلى هدفه، ثم يراقب السير الجيد لتقدّمه مسوّياً مساره وفق بعض الملاحظات الفلكية. ويفخر ابن ماجد بكونه الملمّ والعارف بعلم البحار الذي يميّزه عن علم الفلك الصرف. فالرجل له رؤية جدّ حداثية لهذا العلم، حيث يَعتبر المجال دائم التطوّر والتجدّد، ويَرى نفسه مجرّد باحث في هذا الحقل استطاع أن يُضيف إليه بعض الإضافات. بوصف هذا العلم له أوجه عديدة، تُمثّل إجابات مباشرة لمشاكل فعلية تواجه الملاح أثناء الإبحار وأثناء ضبط الطريق، وكذلك أثناء مراقبة المسار بوساطة النجوم، ومعرفة اليابسة أثناء الرسوّ، إلخ. وكما يلوح يبقى المجال المفضّل لابن ماجد هو الإبحار الفلكي.

الإبحار الفلكي
تعتمد الملاحة الفلكية لدى ابن ماجد، بشكل رئيس، على معاينة علوّ النجمة القطبية. فهي النقطة التي تسمح بحساب العرض بشكل يسير. وفي هذا السياق من الضروري توضيح أنّ هذه القاعدة الملاحية المستندة إلى الرياضيات لدى ابن ماجد، قد تمّ اعتمادها من جانب البرتغاليين. حيث يجري هذا الرصد الدقيق أثناء مرور النجمة بالزوال، وبالفعل هناك شكلان من المرور، تمرّ أثناءه النجمة بخط الزوال العلوي، وهو عموماً الشكل المرئي الوحيد. لكن الشيء الأهمّ في نظرية الملاحة البحرية هو أصالتها، وهو ما يتلخص في وجهين: الوجه الأول على صلة برصد النجوم لتحديد خط العرض، وهي نظرية القياس، وأما الوجه الثاني فهو ما يتعلق بمراقبة الطريق بوساطة الرصد الفلكي، وهو ما يشكل جوهر الملاحة المائلة، وبحسب رأينا هو الجوهر الحقيقي لمنهج ابن ماجد.
فما من شك أنّ الملاحة عند العرب غير معروفة لدينا بشكل جيد، نقصد في أدق تفاصيلها. وقبل الغوص في ذلك يجدر أن نعرض، ولو بشكل إجمالي، أسسَ الملاحة الفلكية لدى العرب لإبراز إسهامات هؤلاء العلماء. وعلى هذا الأساس سنأتي على ذكر نظرية ابن ماجد من خلال التركيز على ما يرويه بخصوص المعارف البحرية. فضمن حديثه عن تاريخية هذا المنهج نجده يشير إلى أعمال سابقة معتبراً نفسه الوريث لعلم الملاحة العربي وما يتميز به من خاصيات. ويستند في ذلك إلى مجموعة من الكتّاب يعود تاريخهم إلى القرن الحادي عشر الميلادي. ويميز ابن ماجد فيما يخصّ الملاحة الفلكية ثلاث مدارس: مدرسة تشولا، التي تعود للبحارة الهندوس على سواحل مالابار، ومدرسة غوجارات ورجالها من الهنود المهتدين إلى دين الإسلام المقيمين على أطراف خليج كامباي، وأخيراً المدرسة التي تعود إلى ابن ماجد، وهي مدرسة خاصة بأهالي شبه الجزيرة العربية.
وقد أبرز ابن ماجد أنّه على دراية بمعارف البحارة الفرس القدماء من ناحية فيلولوجية، أي من حيث القاموس التقني، لكن بالنسبة إلى ما يرويه فهي معارف ملاحية عربية أصيلة. وإن يكن ابن ماجد قد عاصر رحلة فاسكو دي غاما إلى الهند، فقد بقي بمنأى عن التأثيرات الغربية في المجال، مع أنه يعرف التقاليد الغربية الخاصة بالملاحة ويثمّنها. وقد تسنّى له ذلك من خلال ما يأتيه البحارة المسلمون في المتوسط. وأما عالِم البحار والفلكي سليمان المهري، اللاحق بابن ماجد بفترة قصيرة، فقد كان يستخدم آلة الربعية الغربية. وهو على خلاف ابن ماجد الذي كان يؤثر طرق الإبحار العربية المعهودة. لكن ذلك لم يمنع ابن ماجد من الإشارة إلى أنّ التقدم في مجال علم الملاحة هو متوقَّع في الجانب الغربي.

بحار متمرّس 
نقطة بالغة الأهمية ينبغي أن نشير إليها، وهي أنّ ابن ماجد ملاح متمرّس ورئيس بحار، أي من الخبراء العارفين بشؤون البحر. وفي القديم كانت المراكب تبحر بعد تضافر ثلاثة عناصر. فهناك فوق الجميع سلطة يمثّلها المقاول الذي هيّأ السفينة لغرض الربح وجني المال، وأما القبطان فهو صاحب المسؤولية التجارية للبعثة. ويعود إلى المقاول فحسب اتخاذ القرارات الاستراتيجية، لأنّ غرض البعثة بالأساس تجاري نفعي. ويمكن أن يكون القبطان تاجراً وليس بالضرورة ملّاحاً. حيث يساعده متخصّصون: يتكفّل أحدهم بالعمليات، وبتنفيذ الأشغال في السفينة، وإليه يعود التسيير بفضل الطاقم الذي يشرف عليه، ويُطلَق عليه أيضاً مسيّر الطاقم، وأما الشخص الثاني فهو معنيّ بقيادة السفينة إلى ميناء الوصول، وبالتالي هو الملاح المكلَّف بالطريق، وهو رئيس البحر القائد. وإن يكن مسيّر الطاقم على معرفة جيّدة بالسفينة وبأفراد الطاقم، فإنّ رئيس البحر القائد ليس سوى خبير بالطريق، ويمكن أن يُبدَّل من رحلة إلى أخرى بحسب الحاجة، ومن ثَمّ فهو يؤجَّر لغرض إتمام الرحلة. وتلك بالفعل هي مهنة ابن ماجد، ومهنة والده وجدّه.
يبدو ابن ماجد، كما تخبر أعماله وآثاره، الأكثر دراية بهذا المجال، فهو على صلة بسلسلة طويلة من العارفين العرب في ميدان البحار، حيث يشير إلى ثلّة منهم يعود تاريخهم إلى القرن الثاني عشر الميلادي. وعلى سبيل المقارنة بيْن ابن ماجد وسليمان المهري يبدو الأخير، من زاوية تعليمية، ملائماً للمتدرّبين لما يطبعه من طابع التنظير، في حين ابن ماجد فهو خبير متمرّس بشؤون البحار وذو منزع عمليّ، صاغ مجمل أعماله في أرجوزات. إذ يَبرز هذا التمشّي لافتاً، لكن في النهاية يبدو خياراً عملياً. ناهيك عن أنّ الأرجوزة هي الشكل الأيسر للحفظ والتذكر. وما من شك أنّ ذلك النظْم يمثّل عقبة أثناء الترجمة، لما يتطلّبه النصّ التقني من مفردات مضبوطة تلبي حاجات محدّدة، في حين يملي العَروض انتقاء مفردات ملائمة للإيقاع. وقد لا يشكل ذلك عائقاً لدى القارئ المعتاد على أسلوب ابن ماجد، في حين يشكل عقبة لدى القارئ الغربي، ناهيك عن مشكلة أخرى يلقاها المتابع لابن ماجد وهي أن الرجل يتوجه بخطابه إلى فئة مطّلعة وعلى دراية بفنون البحر. فهو لم يدوّن كتاباً يتوجّه به إلى متعلّمين مبتدئين، وتُعدّ كتبه الثلاثة الرئيسة: «حاوية الاختصار في أصول علم البحار»، و«الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، و«الأرجوزة السبعية»، فضلاً عن عديد الأرجوزات الأخرى حول الإبحار موجّهةً إلى أناس عارفين بالمجال.
هذا وقد ألّف ابن ماجد كتاب «حاوية الاختصار في أصول علم البحار» نحو العام 1460م، وهو مؤلف يعود إلى فترة الشباب، وأما «الأرجوزة السبعية» فيُرجّح تأليفها خلال العام 1482، في حين كتاب «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» فقد فرغ من تأليفه سنة 1490م. وبما أنّ تاريخ ميلاد ابن ماجد بين العام 1422- 1427م على وجه التقدير، فمن هنا يكون تدوينه العمل الأول وهو في الثلاثين تقريباً والعمل الأخير وهو في سنّ الخامسة والخمسين. نشير إلى أنّ الأعمال الثلاثة المذكورة هي رسائل في الإبحار تمزج بين التنظير، والوصف لمسالك البحار، وضبط المسافات، وهي باختصار رسائل في فنّ الملاحة وفي ضوابط السير في المحيط الهندي. تسنّى تأليف العمل الأول اعتماداً على مؤلفات كانت بحوزة ابن ماجد، وبالخصوص كتابات ثلّة من السابقين ممّن تسنّى الاطلاع على مؤلفاتهم بعد مرور 300 عام على رحيلهم تقريباً. وأما الكتاب الأخير «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، الذي قام بترجمته جيرالد راندال تيباتس فهو خلاصة معارف ابن ماجد على مدى نصف قرن من التجارب الشخصية. ويبرّر تيباتس سبب اختيار الكتاب إلى أنه الأكثر عناية بالجانب العملي للإبحار الفلكي.