ثمة تمايز واضح في الصوت الشعري الذي يقدمه الشعراء المصريون اليوم، لا سيما الشباب منهم، فهذا الشاعر الأثير محمود شرف يستجيب لواقعية جديدة، سوى تلك التي ألهمت شعراء الحالة الشعرية المصرية في أواخر الألفية الثانية، أمثال الأبنودي وأحمد عبدالمعطي وصلاح جاهين... إلخ، الذين كانوا يميلون إلى الجملة البسيطة في شعبيتها والعميقة في بلاغتها حين تنزاح فتعمّق البسيط وتبسّط العمق، فقد كان الشعر المصري في تلك الحقبة من زمن الشعر تحت تأثير التراث الشعبي والوازع الديني، وتحت شعوره بالمسؤولية إزاء همومه المجتمعية والقومية، بيد أنه أخذ يميل لصالح واقعية روحية جديدة استلهمت من تداعيات الفضاء المفتوح ومن أفق الحرية الجديد، الذي أنتج تعبيرية جديدة في الأسلوب والشكل والبصيرة.

غير أن الصوت الشعري الأحدث هذا بات يواجه تعالقات بعيدة عن روح الفلسفة العميقة أو الشعر ذي البعد السياسي لصالح شعر يخرج ندى صوته من قوقعة الذات التي تحاول وفق متطلبات جديدة أن تعيد تصفيف معادلة فهم القلق غير المستقر، وكذا الرغبة في الاستغناء والامتلاك، وترسم إذ ذاك معالم واضحة لصورة الشاب المتأمل لجحيم الثنائيات والثلاثيات في محيطه، فالعتبات التي راقت لشاهين والأبنودي لم تعد تقود لذلك الالتباس المُرضِي في الشعر، لذا نجد هنا تناولاً مختلفاً لا يغرق في التفاصيل بقدر ما يخرق طبيعتها، وذلك حين يجعل غير العاقل في حالة نضج عقلي، كما في مطلع قصائد «محمود شرف» في ديوانه الأخير «لا تقف حائراً في العتمة»، بحيث يمكن تبرير العجيب والغريب وفق تصديقات تجلّت في قصيدته «خلل بيولوجي» التي جعلت من حالة الإمساخ والتسخير التي أنتهجها شعراء مرحلة سابقة حالةً ما بعد ممكنة، فتحميل الصوت البشري والمقدرة اللّسانية لكل مستحيل أو غير عاقل لعبة الشعراء ومُكنتهم، غير أنهم لا يتجرؤون عليها إلا إذا أرادوا أن يجعلوا الصّور تتحاور بعيداً عن سلطتهم، فحينها تتحرك الصورة كما في هذه القصيدة «ولا أعرف كيف وصلتني هاتان الأذنان، ربما يرجع الأمر لفساد جيني، أو لأنني أكره الأصوات»، ومحمود من الشعراء الذين يطوفون خلف المستور والمعتم، فهناك يديرون حواراتهم، وبذاك يصنعون عالماً موازياً لعالم ما قبل العتمة، والتصويت هذا لا يميل للرمزية في الشعر، وهو ما يجعل هذا الديوان مختلفاً في أسلوبيته ورؤيته الخاصة، فحينها قد لا يبدو انحراف القصيدة اعوجاجاً، ذلك لأنه وكما يقول «هل ترون يا أصدقائي كم تراوغني الأشياء!»، ليجعل حتى بناء قصيدته سردي الشكل وليس سُلّماً شعرياً صاعداً في المجاز المختفي، وهنا يلعب الشاعر لعبة «الغميضة» ويحاول أن يعرف كيف تجازيه القصيدة ومتى تتأتى له، لذا تجد تسلسل عناوين القصائد التالية تحمل عناوين الطيران والشرفات والمطر والقهوة.. وكلها تتساءل بحثاً في أصغر التفاصيل وأدقها ليصل كما يقول شرف «دفء الفرن الطيني كان بقلبي»، لذا تميل القصائد الأخيرة إلى صوت ذاتي يحاول منه «شرف» محاصرة كل الأسئلة التي انبلجت في القصائد الأولى، فصار ثمة مكان للأصدقاء والراحلين عن دنياه في قصائده المسافرة في لحظات زمن خاصة، هذا الصوت الشعري عند محمود شرف يجعل للمعنى قيافة جديدة حين يريح القارئ من ربقة التأويل، ويجدد إهاب الشعر في مصر والوطن العربي من جديد.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية