الفاهم محمد

نعيش في هذا العصر الرقمي الفائق السرعة والتحول انتشاراً هائلاً للمعلومات، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والشبكة العنكبوتية. هذا الأمر لم يؤثر فقط على قدرة الإنسان على مسايرة واستيعاب هذا الجريان المتسارع للمعرفة. بل أثر كذلك على طبيعة الحقيقة ذاتها. ذلك أن القدرة على إنشاء المحتويات المضللة، والتلاعب بالحقيقة وتزييفها، أصبحت عملية في غاية السهولة من أي وقت مضى، بسبب توظيف الذكاء الاصطناعي والتطبيقات المخصصة لهذا الأمر. كنا نعتقد أن الدعاية اختفت مع سقوط الأنظمة الشمولية، غير أن الكذب والأباطيل والإشاعات عادت بقوة في العصر الرقمي، وأصبحت ظاهرة ملازمة للثورة المعلوماتية. لا يمر يوم دون أن يحمل نصيبه من التضليل والزيف، الذي يمس كافة مجالات الحياة الاجتماعية. إن هذا الشكل الجديد من التواصل أدى إلى زحزحة العديد من الثوابت، مثل القصدية والثقة والصلاحية وغيرها، لدرجة أن البعض بدأ يؤكد أننا قد دخلنا مرحلة جديدة، يمكن أن نطلق عليها عصر ما بعد الحقيقة.

التزييف العميق
المقصود بالتزييف العميق Deep fakes استخدام الذكاء الاصطناعي والمعلوماتية، من أجل إنشاء محتوى مزيف، لكنه مطابق للواقع بحيث يصعب كشف حقيقته. تشمل هذه العملية على سبيل المثال إنشاء صور أو فيديوهات مزيفة، لأشخاص يظهرون بصورة طبيعية، لكنهم في الأصل ليسوا سوى شخصيات رقمية. كما يمكن أن تشمل أيضاً التلاعب بالصوت والحركة، حيث يتم توليد مقاطع فيديو لمشاهير في الفن أو السياسية، يدلون بتصريحات مطابقة لنبرة صوتهم، رغم أنهم لم يقوموا بذلك في الواقع. هناك كذلك إمكانية إنشاء المحتويات النصية المزيفة، مثل الرسائل والتغريدات، التي تبدو كما لو أنها كتبت من طرف شخص حقيقي.
هل معنى هذا أن الحقيقة انتهت وباتت من أطلال الماضي؟ في الواقع ما يحدث اليوم هو شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية. صحيح كما أشار جاك ديريدا في كتابه تاريخ الكذب، فإن هذا الأخير جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، غير أن الإنسان ظل على الدوام متيقظاً إزاء ما يتداوله من معلومات، أما اليوم فان موقف اللامبالاة، لا يؤثر فقط على اضمحلال الحقيقة واختفاء الواقع، بل أدى أكثر من ذلك إلى بروز شكل جديد من الوعي السطحي، الذي يستمرئ العيش في الإشاعات والفضائح، بدل الانهمام بالبحث عن الحقيقة، ووضع الخط الفاصل بين ما هو صحيح وما هو خاطئ.
لقد عملت الثورة الرقمية على تقويض نماذج المعرفة التقليدية. لم تعد اليوم المؤسسات الرسمية، هي من يسهر على إنتاج ونشر المعرفة، حسب الطرح الذي دافع عنه ميشيل فوكو. بل إن المسألة أصبحت في يد كافة الجماهير، التي بات بإمكانها تداول المعلومات بشكل غير مركزي. لقد غير عصر المعلومات الرقمية بشكل جذري، كيفية انتشار المعلومات والأخبار في المجتمع. إن هذا هو ما جعلنا أكثر عرضة للتضليل والخداع، وقوض قدرتنا على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو كاذب.

مخاطر التلاعب بالحقيقة
علينا أن نعرف أننا أمام قضية شائكة جداً، فالتلاعب بالحقيقة وإضعافها قد تكون له انعكاسات سلبية، لا على الأشخاص، ولا على المجتمع ككل. إن انتشار المعلومات المضللة قد يؤدي إلى تفكك المجتمع، وانهيار الثقة في المؤسسات. كما قد يؤدي كذلك إلى المس بالوضع الاعتباري للأفراد. فتشويه الواقع، والتلاعب بالرأي العام، وإثارة المخاوف والشكوك، كما حدث خلال وباء كورونا. كل ذلك يؤدي حتماً إلى زرع الذعر والمخاوف، والإضرار بالأمن القومي للمجتمع.
في قديم الزمان كنا نسمع الحقيقة من أفواه العلماء، والحكماء والشعراء، وكل من يعيش حياة النسك، في استجلاء للحقائق الجليلة، التي تفيد البشرية. أما اليوم فقد أصبحت الحقيقة من شأن المؤثرين، وحاصدي نقرات الإعجاب، وأصحاب المشاهدات المرتفعة والمحتويات الأكثر مشاركة، والمتصيدين بالذكاء الاصطناعي... يبحث الناس اليوم عن قشعريرة الحواس، لا عن الأدلة والحجج المنطقية.

عصر ما بعد الحقيقة
في كتابه «عصر ما بعد الحقيقة» يؤكد رالف كيس Ralph Keyes أن الاهتمام بالمعلومات الموثوقة أصبح أقل أهمية. فالناس الذين يغلقون على أنفسهم داخل غرف الدردشة لا يهمهم تقصي الحقيقة. بل الأهم بالنسبة لهم هو ما يشعرون به، وما يريدونه أن يكون حقيقة. هكذا انهارت الحقيقة وحلت محلها القصص والروايات والقيل والقال. في عصر الإنترنت لم تعد الحقائق تكفي لإقناع الناس بها، لأن المهم بالنسبة لهم هو مدى انسجام هذه المعلومات مع معتقداتهم وميولاتهم. هكذا فالتفاعل الافتراضي الرقمي حل محل التواصل الاجتماعي الحقيقي، وهذا من شأنه أن يعزز عزلة الناس وانفصالهم عن الحياة الفعلية. كما أن الاستخدام المفرط للوسائط الاجتماعية، من شأنه أن يؤدي إلى تراجع مهارات التفكير النقدي، والتواصل الفعال لدى الأجيال الصاعدة.
إن السؤال الأساسي الذي يعترضنا، ونحن نفكر في هذه الظاهرة هو: كيف يمكن للأفراد والمجتمع أن يقوموا بحماية أنفسهم من الأخبار الزائفة والمعلومات المفبركة؟
يجب التأكيد على أن الحقيقة ستظل هي مطلب الإنسان على الدوام. قديماً قال الحكيم اليوناني هيراقليط: «علينا أن نحرك الكثير من التراب للحصول على القليل من الذهب». هذا معناه أن الحقيقة ليست ملقاة في الطريق، فالحصول عليها يتطلب جهداً. كما أنها أصبحت نادرة، في ظل عالم يغرق في الخداع. مع ذلك يجب أن لا نقلل من قيمة الشبكة العنكبوتية، التي يمكن أن تكون كذلك معيناً من الذهب للمعلومات الصحيحة.

المسؤوليات الأخلاقية
من الضروري إذن التفكير في المسؤوليات الأخلاقية، ووضع المعايير القانونية، التي تحد من عملية التلاعب بالحقيقة. بما في ذلك وضع سياسات فعالة، تعمل على سن العقوبات التي تحد من نشر المعلومات الكاذبة. في هذا السياق تم تطبيق التربية الإعلامية والرقمية، في العديد من البلدان الأوربية. في المملكة المتحدة مثلاً أصدرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، مبادئ توجيهية صارمة لمنع انتشار المعلومات المضللة على منصاتها. كما قامت فرنسا كذلك بفرض ضرائب على الإعلانات، الموجهة عبر منصات التواصل، للحد من تأثيراتها المالية. أما في الإمارات فقد اتخذت كذلك مجموعة من التدابير، لمحاصرة هذه الظاهرة، منها إطلاق برامج تدريبية للمعلمين، من أجل تمكينهم من نشر ثقافة التحقق من المصادر، وتمييز المعلومات الموثوقة عن المضللة. كما تم استصدار العديد من المراسيم والقوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
يجب على سبيل المثال الرفع من الوعي النقدي لدى المواطنين، ومحو الأمية المعلوماتية، بهدف تقييم المحتوى الرقمي بشكل فعال. كما يمكن أيضاً الاهتمام بدور التربية والتعليم، في تنمية الوعي بالمهارات اللازمة لحماية أنفسنا، من ألاعيب الخداع الرقمي. وبشكل عام من الضروري إعادة بناء الحقيقة والدفاع عنها، وتأكيد دور المؤسسات الديمقراطية، باعتبارها مصادر موثوقة للمعرفة.