محمد عبدالسميع (الشارقة)

إنّ من أهمّ ما تحتاج إليه الأجيال هو أن ترتبط بماضيها، وتعتزّ به وتعيش أمجاده، وتعمل لمستقبله، ومن ذلك تذكير الدولة بكل مؤسساتها ووزاراتها وجهاتها ذات العلاقة، بقيمة التراث وجذوره، وقيمة ما يحمل هذا التراث، ولعلّ الآثار من أهمّ العلامات والدلائل الناصعة على ذلك، أمّا المتاحف الوطنية، فهي حواضن رائعة لهذه الآثار، تضع الشباب بعمق بلادهم التاريخي والجغرافي والدور الكبير الذي لعبتْهُ عبر التاريخ الوطني والإنساني.
في هذه الجولة، سوف نقرأ القيمة الوطنية التي يتضمنها «متحف الشارقة للآثار»، من حيث كونه بانوراما تاريخية للزائر الإماراتي والعربي والعالم، وأيضاً بما يتيحهُ هذا المتحف من معلومات غنية احتاجت جهوداً من البحث والاستخلاص والربط لتوفير «داتا» استنطقها علماء الآثار من مجموعات اللقى والآثار في إمارة الشارقة، وارتباطها بما حولها، وتجارتها، وكونها في فترة من الفترات مركزاً للتجارة وسكّ العملة، والكثير من الميزات في العصور والحقب التاريخية، ليلمس الزائر لهذا المتحف براعة التصميم وغنى المقتنيات.
كنز وطني
من الجميل والذكاء أيضاً، أن يتخصص متحف الشارقه للآثار بفترة ما قبل الإسلام، كمتحف محدد بفترات زمنية معينة يوفرها من خلال أعمال التنقيب الثرية والنوعية بما ظفرت به هذه البعثات من لُقى أثرية وأدوات إنسانية لسكان هذه المنطقة وجوارها عبر التاريخ.
 ويحفزنا متحف الشارقة للآثار على الإحساس بقيمة الأثر والحفاظ عليه، واعتباره كنزاً وطنيّاً لا يجوز التفريط به، وقبل أن نستبق ما توفر لدينا من معلومات حول المتحف وقاعاته المتخصصة، يحسن بنا أن نؤيد ونعتزّ بالهدف النبيل بجعل الأطفال ينشأون على هذا الإحساس ويؤمنون بدلائل وإحالات المجموعات المعروضة، كخريطة ذهنية ووجدانيّة عامة، يشترك في الترويج لها الجميع، خصوصاً حين يعيش أطفالنا التجربة على أيدي متخصصين وذوي مهارة في أعمال التنقيب والتسجيل والتصنيف، في أن يمارسوا العمل حيّاً تحت إشراف المختصين، بكلّ ما في هذه العملية من مراحل واستعدادات، ليحتفظ الطفل والشاب بهذه الذكرى التي قد يتخصص مستقبلاً بسببها في هذه المهنة الرائعة ذات الانعكاس الإيجابي على الوطن وسمعته وسياحته، مهنة الآثار. 
المسألة الثانية، أننا، ونحن نقرأ ما كُتب عن هذا المتحف، نحترم هذه التوليفة الجادة في الربط بين العصور واللقى والمقتنيات الأثرية وعملية التحليل والتفسير، واستصفاء المعلومة لجعلها هادياً ومنيراً لمزيد من القراءات والبحوث والاكتشافات، فنظرة واحدة على العصور: الحجري، والبرونزي، والحديدي، كفيلة بأن تضعنا بمشاهد متخيلة ورائعة عن تلك العصور السابقة للإسلام، وعن حال الإنسان الإماراتي في تلك الحقب والأصول، حيث لكلّ عصرٍ ميزاته وتدرجاته وحركاته في استخدام الأدوات والزراعة والتجارة وتربية الإبل والأغنام، وفي التجارة مع القارات والبلدان عبر البحار.
مكتشفات أثرية
قد افتُتح متحف الشارقه للآثار عام 1997 بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، بتصميم مناسب ومدروس وموقع قريب من الجميع في إمارة الشارقة، ليضمّ مكتشفات أثرية تعود إلى القرن الماضي استندت إلى جهود سابقة من البحث والتنقيب الميداني في ثلاثينيات ذلك القرن، إذ يشتمل المتحف على ما يزيد على 1000 قطعة أثرية لفترة ما قبل الإسلام، وإذا كان موضوع الآثار علماً جافّاً بطبيعته عند البعض، فإنّ هذا العلم حين يتم تحبيبه وتسويقه للأجيال، ونشر التوعية الأثرية الوطنية خلاله، يصبح مما يتزود به الإنسان الإماراتي ويتحدث عنه وعن فائدة علاماته وأهميّة تعزيزه لدور الإمارات في المنطقة والعالم، على أكثر من صعيد.
وفيما يخصّ الثقافة المتحفية، فهي متوفرة في دولة الإمارات، في الانتباه إلى أهميتها في لَمّ كلّ المتناثر والمكتشف والمنقب عنه في بيئات حاضنة هي المتاحف، وليس متحف الشارقة للآثار إلا نموذجاً إماراتيّاً بما يشتمل عليه من الأواني والقطع الفخارية والأدوات والمصنوعات الحجرية والمعدنية والحلي والمجوهرات والقطع النقدية وتماثيل الحيوانات والبشر الصغيرة، ونماذج الهياكل العظميّة والمدافن المكتشفة في الشارقة في أزمان ماضية وسابقة للإسلام.
 ومما يزيد من قيمة هذا المتحف أنه لم يعتمد فقط على عرض هذه اللقى والآثار والأدوات، بل صنع حولها حياةً كاملة، في التدريب والورشات المتخصصة في هذا المجال وتعويد الأطفال، كما أشرنا، على الآثار وتقريب المفهوم إلى نفوسهم وممارستهم له عمليّاً، وإصدار المؤلفات والكتب العلمية وإقامة الندوات والمحاضرات، واستقبال الوفود وتنظيم المخيمات الصيفية للمتحف، وغير ذلك مما هو كفيل بالعيش في جماليات وروعة التاريخ الناطق من خلال الآثار، وإصدار كتاب عن الدليل السياحي، وقد وجّه صاحب السمو حاكم الشارقة بتأسيس إدارة متاحف الشارقة عام 2006 للتنسيق والربط بين ما هو موجود من هذه المتاحف.
قاعات المتحف
قاعات المتحف تتميز بالتسلسل، بحيث يدخل الزائر إلى «قاعة علم الآثار» للتعرف على خريطة الشارقة وتضاريسها وميزاتها الجغرافية وطريقة حياة وعيش سكانها عبر التاريخ، بحسب بيئاتهم الصحراوية والزراعية والبحرية، خصوصاً أنّ الزائر يودُّ أن يأخذ فكرة أوليّة، ليدخل في أتون القاعات المتخصصة بعصور ما قبل الإسلام، وما تشتمل عليه من آثار وتفسيرات مصاحبة شائقة.
فعلى سبيل المثال، يدخل الزائر إلى قاعة العصر الحجري (5000 - 3000ق.م)، ليتعرّف على حياة سكان الشارقة في ذلك العصر، ما بين الصّيد البري والبحري ورعي الأغنام والتقاط الثمار، حيث تدلّ على ذلك معروضات هذه القاعة من مناطق متنوعة، مثل جبل البحيص، مليحة، الحمرية، جبل الفاية، الذيد، وسواها، إذ نجد الأدوات الصوانيّة والحلي الشخصية المصنوعة من العظام والأحجار واللؤلؤ، حيث تعرض القاعة أقدم عقد من اللؤلؤ يُكتشف في الإمارات وُجد في جبل البحيص، ويزيد عمره عن 7000 عام، إضافةً إلى كِسَر فخارية تعود إلى فترة وحضارة العبيد التي ازدهرت في جنوب بلاد الرافدين في ذلك العصر.
وفي قاعة العصر البرونزي (3000 - 1300 ق.م)، نلاحظ التطوّر في المعدن، وخاصةً النحاس، كما نقف على صناعة الفخار واتصال مناطق في الشارقه بحضارات السند، ودلمون، من خلال الأوعية الفخارية والأختام والأمشاط العاجية، وكذلك أعمال الرعي والزراعة وبناء البيوت الطينية واستعمال سعف النخيل في بناء السقوف.
ونرى في قاعة العصر الحديدي (1300 - 300 ق.م)، مراحل إنشاء قنوات الري للمزارع والتجمعات السكانيّة (الفلج) وانتشار زراعة القمح والشعير والنخيل، وكذلك استئناس الجمل في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد في جنوب الجزيرة العربية، إضافةً إلى انتشار التجارة مع دول الجوار وقوافل البخور، كما في موقع مويلح بالشارقة، والتجارة مع اليمن وإيران وبلاد الرافدين.
وفي قاعة الجزيرة العربية الكبرى (300 ق.م - 611 م)، نلاحظ كيف ازدهرت تجارة العرب وتحكموا بعصب التجارة خاصة البخور، وكيف كانت منطقة مليحة بالشارقة أهمّ مركز تجاري في جنوب شرق الجزيرة العربية، وفي هذه القاعة نرى عملة الإسكندر المقدوني، ومدافن السكان في مليحة، نظراً لحضورها الكبير آنذاك، كما نتعرّف على المدافن والمقتنيات المصاحبة لها في تلك القبور.
ذاكرة الشارقة
يشتمل المتحف على مجموعة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، وهي مجموعة من القطع الفنية والحلي من منطقة مليحة تم تسريبها إلى الخارج في ظروف معيّنة، وأعيدت بفضل متابعة وتصميم سموّه، حيث بذل لأجلها ثمناً سخيّاً بهدف الحفاظ على ذاكرة الشارقة، ليقوم سموُّه بإهدائها بعد ذلك إلى متحف الشارقة للآثار.