إيهاب الملاح
(1)
ما من شعائر دينية معظمة حاطها الوجدان الشعبي العربي والمسلم بقداسة فائقة وتطلع يفوق الحد والتصور ورغبة ملحة مشتعلة لا تخبو حتى تتحقق بالزيارة وتعظيم شعائر الله، مثل رحلة الحج المقدسة وزيارة الكعبة المشرفة، والوقوف على جبل عرفات، والابتهال إلى الله من قلب العبد الخاشع المطيع الآمل في رحمة ربه ولطفه وعفوه وغفرانه، طلباً للاغتسال الروحي وتنقية القلب من الشوائب والعودة إلى الديار نقياً مبرأً من الذنوب والمعاصي والآثام مثل الثوب الأبيض المطهر من الدنس.
واحتلت هذه الرحلة بخاصة في الوجدان الجمعي للمصريين شأناً عظيماً عبَّر عن نفسه في مأثورٍ شفاهي غني وخصب ومتجدد، وفي فنون أدائية وتشكيلية ولونية ونحتية، إبداع يندر أن يوجد في مكان آخر، وقد اجتذب هذا الفلكلور والمأثور الوافر الراحل الدكتور محمد رجب النجار ليخصص له واحداً من أجلّ كتبه وأمتعها على صغر حجمه وهو كتاب «فلكلور الحج».
يوضح الدكتور رجب النجار - في مفتتح كتابه - أن «فلكلور الحج» يقصد به هذا النص الإبداعي المرتبط موضوعياً وثقافياً وجمالياً وفنياً باحتفالية الحج أساساً، والمحدد بسياقها الاحتفالي، وبوظائفها الثقافية والدينية والتعبيرية في المجتمعات التقليدية أو الشعبية أو المحلية، وهذا النص الشعبي غني بأنماطه الفنية وأشكاله التعبيرية التي تتردد شفاهاً أو تنشد غنائيًّا.
ومن الجدير بالذكر أن النصوص الشعرية الخاصة بأدب الحج كانت -في معظمها- تُروى باللغة العربية الفصحى في دلالة واضحة على ارتباط النص الأدبي الشعبي بالنص الديني الفصيح في احتفالية الحج.
(2)
ولعل أهم ما في كتاب الدكتور النجار هو استخلاصه لما يمكن أن نطلق عليه «نموذج الاحتفال الشعبي بطقس الحج»، فهو يصف احتفالية «الحج» بأنها تشكل دورة قائمة بذاتها، منذ الشروع بالحج، وأثناء هذه الاحتفالية التي تبلغ ذروتها عند سفر الحاج إلى الديار المقدسة، وعند العودة منها والرجوع إلى الوطن، وقد رأيت بنفسي وعاينت هذه الدورة الكاملة من الاحتفال في حياتي الأسرية والاجتماعية، وسأوضحه في فقرات قادمة من هذا المقال. هذه الدورة القائمة بذاتها كما يحددها الدكتور النجار، تشمل:
- شعر المدائح النبوية.
- شعر الإنشاد الديني.
- أناشيد حلقات الذكر.
- نصوص الأغاني الشعبية المعروفة بأغاني الحجيج (تعرف في المجتمع المصري باسم حنون الحاج).
- أغاني الدراويش والمداحين والمنشدين الدينية (باللهجة الدارجة).
- أغاني الحداء الدينية التي كان يترنم بها حداة الإبل في قوافل الحجيج.
- أهازيج الأطفال التي كان يترنم بها أطفال الحجاز -حتى وقت قريب- عند استقبالهم قوافل الحجيج.
- الأدعية والابتهالات الدينية التي يرددها الحجيج.
- العبارات المأثورة التي تتردد لتهنئة الحاج والترحيب به والتبريك له الشفاهية أو الكتابية (على واجهة منزل الحاج عند عودته).
- الأغاني الشعبية المصاحبة لوداع أو استقبال المحامل كالمحمل الشامي أو العراقي أو اليمني أو المصري.. إلخ.
- المرويات القصصية التي كان يرددها وعاظ الحملات وقراؤها والخاصة بمعجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخاصة في الحج أو بقصص الأنبياء (بناء الكعبة، وضع الحجر الأسود.. إلخ) أو تلك الحكايات التعليمية الخاصة ببعض الأماكن أو البقاع المقدسة في مكة والمدينة.
- المرويات الشخصية التي يرويها أو يكتبها الحجيج عن رحلة الحج من مبتداها إلى منتهاها.
(3)
رغم مرور ما يزيد على الثلاثين سنة على مروري بهذه الخبرة الإنسانية والروحية العامرة، التي اتصلت بمعاينتي للمرة الأولى في حياتي معنى أن تحج جدتك، ومنذ اللحظة التي تقرر فيها القيام بالرحلة المقدسة، وحتى عودتها سالمة مسبوقة بلقب «الحاجة» الذي يحظى باحترام شديد وكبير في أوساط المصريين، ما زلت أذكر وأنا في العاشرة من عمري ما أحاط بتلك الرحلة من طقوس وتقاليد واحتفالات ما زالت بهجتها تتقافز في روحي وقلبي وذاكرتي كلما استدعيتها أو خطرت على بالي..
كانت جدتي تقطن معنا في ذات المنزل، وأبي هو ابنها الوحيد لا أشقاء ولا شقيقات، وهو الذي يتولى الإعداد والتحضير لهذه الرحلة المقدسة المنتظرة بشوق ولهفة، ما بين يومي السفر والعودة ثمة طقوس واحتفالات واستعدادات غير مسبوقة في منزلنا وشارعنا بل وفي حيِّنا الشعبي كله!
ليلة السفر، يجتمع الأهل والجيران وأحباب جدتي في المنزل حتى يكادَ يفيض بهم! لساعات طويلة لا تنقطع تصدح حناجرهم بأجمل وأعذب الألحان والأغنيات الشعبية التي تجسد شوق المحب لحبيبه ولهفته للقائه، أغنيات تصور عشق المصريين للحج ولزيارة بيت الله الحرام وتعظيم شعائره وزيارة النبي الكريم (أبو فاطمة الطاهرة الشريفة) لم أكن في حينها أعي جيدًا تغلغل هذا الموروث في الوجدان الجمعي المصري في كل المستويات وكل الطبقات، وإن كان أكثر بروزاً وظهوراً وتواصلاً وتجدداً في الأرياف والصعيد، وكلما أوغلت في عمق الأطراف الصحراوية الشرقية والغربية، ومن هاجر منهم إلى أطراف العاصمة والضواحي، في ليلة الاحتفال بالسفر إلى المشعر المقدس، أذكر هذه الأغنية لا أنساها:
رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة
رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة،
وأدعي يا أمة من فوق المنايا
ودعيتك يا بني يا بني تيجي بالسلامة
أما يوم السفر ذاته فكان يومًا عظيمًا مشهودًا، اجتمع الناس من كل حدب وصوب أمام منزلنا لتوديع جدتي التي ارتدت الأبيض واستعدت للزيارة التي تاقت إليها عمرها كله، كنا جميعا نرتدي زياً جديداً أبيض (من دون قصد ولا اتفاق)، أنا وأبي وأمي وشقيقتاي، البيت كله مزين بطوابقه الثلاثة، وواجهته مزينة بالرايات واللمبات الملونة صارخة الإضاءة والأيقونات المصورة الشهيرة لرحلة الحج. جاء جميع أقاربنا من كل مكان حتى الذين لم نكن نعرفهم ولا نراهم إلا على فترات متباعدة للغاية، جاء الجميع مبتهجاً محتفلاً ومنفعلاً بالحدث الكبير.
(4)
بعد سفر جدتي، أخذ أبي بهمة ونشاط في تحضير المنزل بطوابقه الثلاثة، لاستقبال «الحاجة أم عربي» (شهرة أبي كانت) بعد أن تكون أتمت الفريضة العظمى، اتفق مع نقَّاش مناسبات الحج الشهير في منطقتنا الشعبية، ليطلي واجهة المنزل بالكامل برسومات الحج الشهير وآيات القرآن الكريم، وأبيات الشعر والمواويل الشعبية التي تسجل جمال الرحلة رغم مشقتها، وبهجة العودة وفرحة لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارة قبره والروضة الشريفة.
كانت هذه الرسومات طقساً فولكلورياً أصيلاً لدى المصريين، وللأسف يكاد هذا الطقس يكون قد انحسر تماماً حتى كاد يختفي، ولو لم تحفظه أرشيفات التراث الثقافي اللا مادي، وأطالس المأثور الشعبي لفاتنا مأثور عزيز لا يعد ولا يحصى ولا يعوض.