نوف الموسى (البندقية)
يُمكن اعتبار أن دور الكاتب الصحفي، يُختزل في اللحظة التي يستطيع من خلالها قراءة العلاقات البينية بين مُنتج الفعل الإبداعي «الفنان»، والمحركات الجوهرية لطبيعة مخرجاته التعبيرية، وتشكلاتها الثقافية، أي قدرة تلك المخرجات على إحداث نوع من الاتصال الإنساني مع السردية المجتمعية، فمثلاً كانت تكفي تحديداً التساؤلات البحثية للقيّم الفني طارق أبوالفتوح، حول النشأة الأولى لآلية عمل الفنان الإماراتي عبدالله السعدي، إبان تعاونهما لتقديم معرض «عبدالله السعدي: أماكن للذاكرة.. أماكن للنسيان»، ضمن مشاركة جناح الإمارات في المعرض الدولي للفنون في بينالي البندقية، والمستمر لغاية نوفمبر من عام 2024، ليشكل حواره مع «الاتحاد»، سلسلة بحثية حول ما تستدعيه الفضاءات الخاصة للفنانين من قراءة متأنية ومُلاحظة مبنية على تاريخية التراكم الوجودي لإنسان هذه الأرض، وماهية جذور تلك التحولات البصرية من الشفاهية المفرطة إلى المرئية الذائبة تماماً في ذاتها. وبتمهل مسكون بفكرة التدبر، سرد القيّم الفني طارق أبوالفتوح مفهوم حديثه مع الفنان عبدالله السعدي، في تعاونهم الأول لتقديم عمل فني بعنوان «ترحال» في «إكسبو 2020 دبي»: «العمل مثّل نقشاً على صخور جمعها الفنان من وادي الطيبة في إمارة الفجيرة، كقيّم فكرت يومها بطبيعة اختيار حجم الأحجار، وقابليتها الفنية لتموضع في الفضاء العام، بالمقابل استوقفني نقاش الفنان السعدي بأنه سيذهب إلى وادي الطيبة، وسيخيم فيها ثلاثة أيام، ليقرر على إثرها اختيار تلك الأحجار، ومن هنا شعرت بأن هناك ما هو أبعد في المسيرة الذاتية لتجربة السعدي، فما الذي يحدث من تناص مع عبدالله والطبيعة في هذه الأيام الثلاثة؟». 

فُرصة نوعية
شكل معرض «أماكن للذاكرة.. أماكن للنسيان»، لجناح الإمارات في بينالي البندقية، فُرصة نوعية لتقديم مساحة من الحوارات المعرفية والمباحث النقدية لمسارات الفنان عبدالله السعدي، في كيفية انطلاق رحلاته الاستكشافية، نحو جوهر الطبيعة الجغرافية لمناطق في الإمارات، تأكيد أشار إليه القيّم طارق أبوالفتوح، في بيانه حول الجزئية المتعلقة بالانسجام التي يسعى الفنان السعدي إلى الانغمار المُسهب فيها، عبر إحداث حالة من التوحد التام مع الطبيعة الأم، بأن يكون جزءاً منها، ما يجعلنا نتصور أن تلك الخرائط التي يوثقها في أعماله الفنية، ليست بالضرورة تعبيراً يقتصر على المكان، بل مسيرة روحية، تطواف حول الكون، شهدت 40 عاماً من مسيرة الفنان الفنية، سواءً مشياً على أقدامه، أم بالدراجة الهوائية أم حتى مع رفيق رحلته حماره «قمر قند»، واعتبر أبوالفتوح أنها مسألة تعود بنا إلى تاريخ الشعر العربي، وحياة الشعراء، من جال منهم الأرض بأسرها، لوحدهم أحياناً، وبصحبتهم الرفقاء في أحيان أخرى، لرؤية العالم من خلال قصيدة، وأهمية الأمر في العموم أنه يوضح أن الفن في الإمارات، له جذور بالغة في القدم، وقادمة من تجليات خاصة فيها، تمتلك محدداتها ومحفزاتها وتاريخها الإبداعي، الذي بطبيعته مُستلهم من «الذاكرة الجمعية».

نظرة أوسع
في توصيف بديع، للقيّم الفني طارق أبوالفتوح، رجح موضوع الأماكن في الذاكرة، عطفاً على معرض الفنان عبدالله السعدي، بأنها ليست بالضرورة أماكن جغرافية، بل قد يكون العمل الفني، والقصيدة الشعرية والمقطوعة الموسيقية، أماكن بحد ذاتها، مثلما فعل الأديب نجيب محفوظ في أن تكون الرواية بحد ذاتها مكاناً أدبياً، باعتبارها تهدي للمتلقي نظرة أوسع لأثر الذاكرة الجمعية، التي اعتبرها المؤرخ الفرنسي بيير نورا، تتسع لمفاهيم تتجاوز الحدث والمكان، وأنها أقرب إلى كونها حالة إنسانية ممتدة، ويُبين أبو الفتوح في هذا الصدد، أن الإبداع يتراوح بين التذكر والنسيان، فمثلاً أعمال الفنان عبدالله السعدي في مكوناتها الأساسية ليست توثيقاً حرفياً لـ «الطبيعة في الإمارات»، ولكنها في حالة هارموني بين أجزاء من المكان الفعلي، وأجزاء من العالم الخاص للفنان، تماماً كما هي القصيدة أنت تذهب للمعنى وتنتصر في نهايتها لدهشة، والشعراء يعتبرون ذلك فعلاً لمقاومة جمود العالم، كما سماه الشاعر نوري الجراح. وبالنسبة لنا، فإن الفنان عبدالله يجابه جمود الزمن بذات الرصد والتوثيق المبني على الشيفرة (الكود)، التي تحمل هي أيضاً دلالاتها المتفردة في أعماله الفنية، ربما لأمكنة وأشخاص تحضر في مشهدية، وقد تتلاشى في مشهدية موازية، ومنه نتوصل أن مرحلة النسيان لابد منها لتتسع ذاكرة العالم. 

الإيقاع الخاص
الحالة الإبداعية والتطورات المجتمعية، وتأثيرها على مخرجات رواد الفن المعاصر، الذين يمثلون دولة الإمارات في المحافل الدولية، يجدها القيّم الفني طارق أبوالفتوح تختلف من فنان إلى آخر، فتجربة الفنان الراحل حسن شريف تختلف معطياتها في تاريخية الفن المعاصر العربي، وكذلك توجهات الفنان محمد كاظم، ورؤى الفنان محمد أحمد إبراهيم وغيرهم من الفنانين، لأن كل فنان يفهم العالم بطريقة مختلفة، وتعامل مع التطورات المجتمعية المحلية بشكل مغاير عن غيره. وبالعودة إلى الفنان عبدالله السعدي، نجده في ظل كل الاحتفاء بالفعاليات الثقافية الكبرى والمتاحف المهمة والمبادرات الفنية المستمرة، يذهب بعيداً برحلات فنية في أماكن هادئة لا تزال تحافظ على عفويتها بعيداً عن المدينة، يتذكر مرات عديدة ذهب فيها أبوالفتوح إلى استوديو الفنان عبدالله، وشهد الانتقالات اللانهائية لحالته الفنية بين الهدوء والصمت، يصفها أبوالفتوح بالإيقاع الخاص للفنان، والذي من خلاله يفهم الفنان مكانه الذي أتى منه وصفات ذلك المكان ومميزاته، ومنه نتوصل كيف أن التعابير التفاعلية للفنان مع المتغيرات المجتمعية متباين، ولا تعني انفصالاً البتة، بقدر ما أن الفن بطبيعته يحاكي ذاتية الفنان وفضاءها الخاص، الذي هو بالضرورة متصل بطريقة غير مباشرة وإبداعية مع العالم الخارجي الأوسع.

النقاش الفني العالمي
اعتبر القيّم الفني طارق أبوالفتوح، أن مشاركة جناح الإمارات، في أكبر وأعرق بينالي للفنون في العالم، إنما هي انعكاس لرؤية واضحة لأهمية حضور الدولة في النقاش الثقافي الفني العالمي، من خلال تسجيل دور استثنائي لبناء تواصل مستمر للأفكار والمعرفة القائمة على تبادل التجارب الإنسانية وتنوعها، وختم حديثه قائلاً: «في بينالي البندقية هناك حوار مفتوح وصريح لكيف يرى العالم نفسه عبر الفنون، وبمجرد أن نكون جزءاً من الحوار فإننا نفتح مدارك جديدة للهوية الإنسانية وتواصلها اللامحدود، القائم على الوعي بالجانب الحسي المرهف في تجربتنا الإبداعية. نحن هنا نشارك العالم أجمع قصصنا المحلية بأبسط مدلولاتها الجمالية، وأعمق وسائطها البحثية المتصلة بالطبيعة الأم، والتي نتشارك الحياة عليها جميعنا».