الفاهم محمد
منذ مطلع الألفية الثالثة نعيش تحولاً غير مسبوق في تاريخ البشرية. ففي ظل التطورات الهائلة التي يعرفها الذكاء الاصطناعي، بدأنا نعاين تحولاً عميقاً في الثقافة الكتابية، التي كانت تعتمد على القلم والإبداع الحر للخيال البشري مثل الكتابة الشعرية والروائية والمقالات الأدبية والعلمية وغيرها من فنون الكتابة. نحو ثقافة جديدة تعتمد على الأزرار والرقمنة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، التي حلت محل الإنسان في عملية تحرير النصوص وتوليدها، وتحسين جودتها، سواء تعلق الأمر بالنصوص الإبداعية شعراً أو نثراً، أو النصوص الإعلامية والتسويقية وغيرها. فهل سيتمكن الذكاء الاصطناعي، من إزاحة الذكاء الطبيعي من عرش الإبداع والخيال؟
الثورة الرابعة
ينظر إلى الثورة الرقمية باعتبارها الثورة الرابعة، وذلك بعد الثورة الزراعية والصناعية والتكنولوجية. وإذا كانت هذه الأخيرة قد مكنت الإنسان من تغيير العالم الخارجي إنشاء الحضارة الزراعية والصناعية فإن الثورة الرقمية، اتجهت لإحداث تغيير يمس الجوانب الداخلية للإنسان. أي الجوانب التي تحدث تغييراً جذرياً في هويته وطبيعته الداخلية. إنها لا تغير فقط في بنية المجتمع وطبيعة العلاقات الاجتماعية. بل تعمل على تحويل طرق التفكير، ونمط الوعي وأشكال اكتساب المعرفة.
منذ أن اكتشف الإنسان الكتابة في بلاد الرافدين، والتي ساعدته على توثيق وحفظ ذاكرة البشرية، وتطوير النظم الإدارية والاقتصادية. ها هو الآن يكتشف الرقمنة والذكاء الاصطناعي، كآخر مرحلة من مراحل الحداثة الفائقة. وإذا كان اكتشاف المطبعة خلال عصر النهضة على يد غوتنبورغ، قد أدى إلى انتشار المعرفة على نطاق واسع، فإن اكتشاف الحاسوب وظهور الشبكة العنكبوتية، قد دفع بهذا الانتشار إلى مداه الأقصى. إضافة إلى ذلك مكننا ظهور الكتابة، من الانتقال من الشفهي إلى المكتوب. غير أن ظهور الرقمنة كما يشير مارشال ماكلوهان في كتابه: «مجرة غوتنبورغ قد أدى إلى ظهور بيئة اتصالية ومعرفية جديدة، تتميز بالتشارك والانفتاح المعمم».
فاعلية إبداعية جديدة
كانت رواية مايكل جويس الشهيرة Afternoon a story التي ظهرت سنة 1987 هي أول النصوص السردية التفاعلية. لقد أحدثت تحولاً مثيراً في عالم الإبداع والكتابة. منذ تلك الفترة بدأنا نعاين ميلاد فاعلية إبداعية جديدة. نتحدث اليوم عن الأدب التفاعلي، وعن النص المتشعب، والنص الفائق hypertext وعن السرد الرقمي الذي يتفاعل القارئ فيه مع الأحداث، كما هو الأمر في الألعاب، حيث يختار المسار الذي يمكن أن تسير فيه القصة. كما نتحدث عن النصوص الشعرية الرقمية، التي يختلط فيها الصوت مع الصورة والحركة. علينا أن ندرك هنا أن الأمر لا يتعلق فقط بتطور في الأشكال التعبيرية الكتابية، ولكن بتغيير جوهري يطال العملية الإبداعية ذاتها كما ألفناها لحد الآن.
طبعاً وككل مخترع تكنولوجي فإن موضوع توظيف الرقمنة، من أجل كتابة المقالات الفكرية، وتوليد النصوص الإبداعية، له إيجابياته وسلبياته. فتوظيف مثل هذه الأدوات، بإمكانه أن يساعد على تعزيز الإلهام، وتحسين الممارسة الكتابية وتسريعها. كما قد تساعدنا هذه الأدوات أيضاً على ابتكار أفكار جديدة وغير متوقعة. هذا من دون الحديث عن المساعدة التي تقدمها، في مجال تصحيح الأخطاء اللغوية، والتدقيق النحوي والإملائي. غير أنه في المقابل ينبغي أن لا نعول كثيراً على هذه التطبيقات، في إنجاز كل المهام المطلوبة، لأننا في هذه الحالة سنقوم بإلغاء ذواتنا، مما قد يجعل الذكاء الاصطناعي يحل محل الذكاء البشري. إن مثل هذه الاعتمادية المفرطة، قد تكون لها نتائج وخيمة على القدرة على التخيل والإبداع الحر للإنسان.
واقع جديد
الناقدة والمفكرة الأميركية نانسي كاترين هايلي nancy katherine hayles تتضمن أفكارها نوعاً من الآمال لما نعرفه من تحول من الثقافة الكتابية إلى الثقافة الرقمية. خصصت الكاتبة العديد من الكتب لهذا الموضوع، نذكر منها كتابها الصادر سنة 1999 «كيف نصير ما بعد إنسانيين»، حيث تناقش مسألة الهوية البشرية وتحولاتها، في عصر الرقمنة والمعلوماتية. ثم كتاب «القراءة والتفكير في الوسط الرقمي» الصادر سنة 2012، الذي تستكشف فيه كيف تساهم الوسائط الإعلامية الرقمية في تطوير الثقافة، وتغيير ممارسة القراءة والكتابة. كما تطور في هذا الكتاب مفهوم جديد هو technogenesis الذي يشير إلى التداخل والتطور المشترك، لكل من الإنسان والتكنولوجيا، بحيث يتفاعل أحدهما مع الآخر، إلى درجة إنتاج ما تصطلح عليه الكاتبة بـ «الذات التقنية» the technogenetic self
هناك أيضاً كتاب «الأدب الإلكتروني: آفاق جديدة للأدب الإلكتروني» 2008، والذي تدرس فيه ظهور هذه الأشكال الأدبية الجديدة في الوسط الرقمي، وما تفرضه من ضرورة إعادة تشكيل لمفهوم الكتابة والقراءة معاً.
إن الانتقال من النصوص المكتوبة إلى النصوص المرقمنة، سيتيح في نظرها تأسيس تجربة غير خطية، سواء للقراء أو للإبداع. فالنص تتم كتابته وقراءته بطرق مختلفة، عما هو معهود، وهذا من شأنه أن يعمل على تغيير جوهر البنية المعرفية والإبداعية. إضافة إلى ذلك فالتحول الرقمي في نظر الكاتبة، سيمكن الإنسان من بلورة تشكل ذاتي جديد، يحتضن فيه إمكانات التكنولوجيا، دون السقوط في وهم تجاوز الشرط البشري والقوة الخارقة، وهي اليوتوبيا الجديدة التي يبشر بما اتجاه ما بعد الإنسانية.
تحولات غير مسبوقة
عصرنا هذا هو عصر التحولات غير المسبوقة في تاريخ البشرية. الانتقال من ضفة إلى أخرى. فالكتب الورقية والملموسة أصبحت كتباً رقمية. والقراءة الخطية أصبحت قراءة تفاعلية. كما أن الكتابة الإبداعية الذاتية، أصبحت بدورها كتابة تشاركية بين الإنسان والآلة. إن كل هذا يعبر عن التحول الشامل الذي نعرفه، من الثقافة الكتابية إلى الثقافة الرقمية الجديدة، التي تتغير فيها أساليب الفهم والإدراك والتنظيم المعرفي. ثقافة تنطوي على تحولات جوهرية.
باختصار نقول، إن مثل هذه التطبيقات قد تكون مفيدة في الرفع من مستوى الإبداعية والممارسة الكتابية، ولكن كل ذلك يحب أن يظل تحت سيطرة الإنسان، حتى لا تلغي الخوارزميات الإنسانية، وحتى نحافظ على أصالة ما نكتبه. يجب أن يكون الذكاء الاصطناعي مكملاً للإبداع البشري لا أن يحل محله.