نوف الموسى (أبوظبي)
في هذه اللحظة الآنية لقراءة هذا التحقيق تكاد تمر آلاف التوجيهات الإلكترونية ذاتية القراءة للمحتوى العربي عبر «منصات التواصل الاجتماعي»، والتي تمتلك قدرة التنبؤ بالأنماط الاجتماعية، وتقييم الاتجاهات الفكرية والمعرفية، وتظهر على شكل مخرجات ونتائج آنية، بإمكانها توجيه الخيارات اليومية للإنسان، والتأثير بشكل مباشر على أبعاد تجربته الحياتية. حيث تُعرف هذه الآلية التوجيهية في أوساط البحث التقني بما يسمى بـ «خوارزميات الذكاء الاصطناعي» سواء عبر أجهزة الهواتف الذكية أو أجهزة «الكمبيوتر» القادرة على أداء مهام تحليل البيانات، واتخاذ القرار بشكل مستقل، وذلك لكل عملية محاكاة وتعليم ذاتي تبديها «منصات التواصل الاجتماعي» للأنماط الاجتماعية والسلوكية للأشخاص، من يستخدمون تلك المنصات الافتراضية، بهدف تبادل المعرفة وتحقيق الاتصال. إلا أن السؤال المُلح في المرحلة الفارقة من عمر الممارسات الافتراضية للمنصات الاجتماعية، حول الدور الذي تلعبه اليوم في تشويه أنماط التفكير، وانحسار العملية الإبداعية، والأقرب إلى كونها تُحدث أزمة في الوعي الثقافي، وإحدى أبرز تلك المُعضلات، التي أشار إليها المفكرون والمثقفون، في حوارنا حول «الإشكالية الفكرية لمنصات التواصل الاجتماعي»، أنها بدأت تؤسس لحالة من أحادية التفكير، كونها مبنية في أساسها على برمجة توجيه «الفكر» عبر أنماط سلوكية تنبثق آلياً بشكل عشوائي، تُبنى على أثرها سلوكيات جديدة غير متوقعة، تتحرك في دهاليز لا نهائية، يُجرد فيها الإنسان مع الوقت من خيارات التفكير النقدي، ويُعزل عن مفاهيم التعددية والانفتاح، ويكاد يتفق بعض المتخصصين في القطاع الثقافي، أن هناك حالة أشبه بتأزم الفضاءات الاجتماعية، حول من يقود الوعي الثقافي في المحتوى الرقمي للعالم العربي، إذا ما ظلت البلدان العربية خارج عملية إنتاج برمجيات منصات التواصل الاجتماعي، ورصد مضامين «خوارزميات الذكاء الاصطناعي»، كونه الأكثر تعقيداً ما بين الخوارزميات الأخرى، المتعارف عليها في عالم البرمجة التقنية للآلات.
في جلسة نقاشية بندوة الثقافة والعلوم، اعتبر معالي محمد أحمد المر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، أن هناك مفهومين لعلاقة التكنولوجيا بالإنسان، الأول هو مفهوم «اليوتوبيا»، حيث استخدم الإنسان التكنولوجيا للقضاء على الفقر والجهل والمرض، إضافة إلى اكتشاف الكواكب الأخرى. أما المفهوم الثاني يطلق عليه «ديستوبيا»، وفيه إما الآلات تسيطر على البشر، وإما تستطيع القوى البشرية إحكام سيطرتها على البشرية من خلال الآلات، وبحسب المؤشرات العامة، فإن هناك حضوراً للمفهومين في عصرنا الحالي، والسؤال الفعلي الذي بإمكاننا أن نطرحه في هذا النقاش المهم، هو كيف يمكن للنخب الحاكمة والمتعلمة والجماهير أن تتفاعل مع تلك المفاهيم، خاصةً مع الانحسار الذي تعيشه الصحف الورقية ـ يقاسمها التلفاز والراديو ـ التي حققت سمة التواصل الاجتماعي، من خلال الأخبار الرصينة والمدققة، وقدمت الرأي المتعدد للخبراء، إلى جانب دفعها بتحقيقات صحافية ذات تأثير مباشر على حياة الناس، فالبشرية عن طريق المؤسسات الدستورية والسياسية استطاعت أن تضبط عمل الصحف عبر قوانين الإعلام، بالمقابل فإن «الإعلام الجديد»، فتح الكثير من المجالات التي يصعب تنظيمها من مثل سلسلة «الأخبار الزائفة» وكذلك المحدودية الواضحة التي بدأت تشكلها «منصات التواصل الاجتماعي» عن طريق ما يسمى بـ«لوغاريتمات».
تابع معالي محمد أحمد المر حديثه حول أثر «اللوغاريتمات»، والتي تعيدينا إلى نقاشنا حول «الخوارزميات وأزمة الوعي الثقافي» واصفاً موضوع «اللوغاريتمات» بنموذج عملي بقوله: «عندما يقرر المستخدم أن يشتري 4 كتب في موضوع معين، يُلاحظ كيف أن تلك البرمجيات الخاصة بتلك الموجهات الآلية في الأجهزة الذكية، ترسل له باستمرار موضوعات كتب في نفس المجال، ولا ترسل مثلاً في موضوعات مختلفة، فلنا أن نتخيل كيف ممكن إذا بحث أحد المتطرفين فكرياً على سبيل المثال في مقالات معينة، تستمر بذات الآلية في تزويد الشخص بكتب ومقالات تدعم نفس التوجه، وبذلك فإن الانتماء إلى أفكار ضيقة، لا تسمح بفضاء التعددية، واحترام الرأي الآخر، أصبحت تحدياً بارزاً تواجه المجتمعات، والتحول الفعلي الذي يمكن إنجازه هو كيفية استثمار البدائل المطروحة في الإعلام الحديث بشكل يحفظ المجتمعات الإنسانية وفضائها الثقافي والاجتماعي المتعدد».
البوتقة الواحدة
«رغم التوفير الكبير للوقت، الذي أتاحته التقنية، للحصول على المعلومة، في المشروعات البحثية والعلمية، وتحقيق التواصل اللامتناهي بين البشر، إلا أن غياب قادة الرأي من الأدباء والعلماء والباحثين، وكل من يؤثر في الوعي، على مستوى المؤسسات الفكرية والمعرفية الكبيرة، يؤثر بصورة جذرية في تفعيل مخرجات خوارزميات الذكاء الاصطناعي عبر منصات التواصل الاجتماعي»، تشير هنا الكاتبة والإعلامية د. بدرية البشر إلى مسألة البوتقة الواحدة، التي أحدثتها خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والأحادية المملة التي تعزلنا بشكل قصري عن التعددية في رؤيتنا للمفاهيم والموضوعات الفكرية والمعرفية، مبينة أنه بالعودة إلى التاريخ، نلاحظ كيف أن لكل مجتمع وزمن عبوديته، وبحسب تعبيرها فإننا في الوقت الحالي نشهد ما يمكن تسميته بالعبودية التقنية، التي يتحمل الإنسان اليوم مسؤولية التحرر منها، وبالنسبة لها فإن الحل يكمن خارج تلك الخوارزميات، واصفةً ذلك بقولها: «لابد من الوعي أن يتوسع».
ومن بين الأبعاد الإنسانية المهمة التي طرحتها الكاتبة والإعلامية د. بدرية البشر، فيما يتعلق بتوسيع الوعي وعلاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعي، تأكيدها على مسألة أنه حان الوقت للاستفادة من حكمة الشرق، وأنه على الإنسان العودة للنقطة التي بدأ منها، لتصبح الرحلة أوسع، فالكثير من تلك المفاهيم الشرقية، بدأ الغرب يستثمرها لمعالجة أوجاعه، أبرزها مسألة الارتباط بالقبيلة، ليس بالمفهوم الثقافي الضيق، وإنما بالمعنى الإنساني الأوسع، فنحن خرجنا من هذه المفاهيم، وكنا نعتقد أنها ضيقة، ولكن مع اتساع وعينا المعرفي، وبالتوازي مع البحوث العلمية، توصل الكثير من المختصين والمعالجين، أهمية العودة إلى «القبيلة الإنسانية»، وكيف أن الإنسان لا يستطيع العيش من دونها، والأزمة الصحية في عام 2020، أثبتت ذلك، عندما وجد الإنسان نفسه معتقلاً بين جدران غرفته، في تلك اللحظة بالأخص، اكتشف حاجته وجوعه للمجتمع الإنساني.
هويتنا الإنسانية
قدم د. أحمد السعيد، الرئيس التنفيذي الرئيس التنفيذي لـ «بيت الحكمة للصناعات الثقافية»، رؤية موجزة لـ 15 سنة فائتة، عندما انطلقت «منصات التواصل الاجتماعي» في المنطقة العربية، وكيف أن أسس التفكير لدى الفرد والجماعة والأسرة تغيرت، وبسبب صعوبة وضع قواعد حاكمة عملية لمستخدمين محتوى الشبكة العنكبوتية، بدأنا نلاحظ مشاكل وجرائم من نوع جديد، تتسم بمنهجية التقليدية والتكرار والانتشار، وقبل أن نستوعب هذه المرحلة ونهضمها بشكل جيد، وجدنا أنفسنا في عالم الـ AI، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، القائمة على فكرة المحاكاة والتجميع لكل ما نفكر فيه ونكتب عنه، وتحويله إلى رموز، وربطها ببعض، فمثلاً إذا بحثنا عن موضوع «الفن في الإمارات»، فالخوارزميات تقوم بأخذ الكلمة الأساسية بدون تفكير، وتجميع مضمون لها من محتوى كبير متوفر على الشبكة، سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، ما يجعله في اعتقاده موضوعاً مشوهاً، كونه لا يمر بمرحلة تدقيقه وتحريره ـ لا يوجد مصدر بشري ـ وبتالي أتيح للغير بدون تفكير، ما يفقدنا الجزء الأخير من «التفكير الذاتي»، غير المرتبط عادةً بالمؤثرات الخارجية، ويشكل جوهر ماهية الوعي الإنساني، ومنه أوضح د. أحمد السعيد، أن الأمر موكل للمؤسسات الحكومية البحثية، وأهمية تأسيسها لوزارات في الدول العربية، تتبنى مناقشة فكرة «وجود عقل غير بشري يفكر للعقول البشرية»، ورغم الفائدة الكبيرة للتقنية، إلا أنها بدون ضابط معياري تفقدنا هويتنا الإنسانية في مجتمعاتنا المتعددة ثقافياً واجتماعياً ومعرفياً.
إنتاج التقنية
توقف د. أحمد السعيد عند نقطة جوهرية، هي إشكالية من ينتج ويصنع تلك التقنيات، قائلاً حول ذلك: «حتى وإن استطعنا الوصول لوعي خارج الخوارزميات، فإننا لسنا متداخلين في مسألة إنتاج التقنية، إذاً فأنا مستهلك، ولستُ منتج، فبتالي مهما حاولت بناء مشروعات وعي، تضبط الوعي الثقافي في داخل الفضاءات الرقمية، فإن المسألة ستبقى صعبة، ومن هنا جاءت الأهمية في تأسيس جامعات متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وأيضاً مؤسسات الأمن السيبراني وغيرها من المجتمعات التقنية المهمة، كالموجودة في دولة الإمارات، ويمكننا الإطلاع على التجربة الصينية فيما يتعلق بموضوع «فيسبوك» و«سناب شات» و«انستغرام»، وكيف أن الصين تمتلك تقنيات مماثلة ولكنها بإنتاج صيني، تتميز بتحققها للكلمات البذيئة بشكل تلقائي، وأيضاً تقدم ميزة حفظ حقوق الملكية الفكرية وخصوصية الأفراد، ومن هنا أتمنى شخصياً أن يكون هناك تداخل في النقاشات بين الجيل الجديد وكبار السن المعنيين بوضع القوانين وتشريعها في الأوطان العربية، حتى لا نقع في فجوات أمنية».
الهوية الرقمية
«هل العقل البشري خوارزمي ؟!»، جاءت إجابة الكاتب والروائي جلال برجس، بالنفي، موضحاً أن «الخوارزميات» مبنية على مبدأ الانبثاق، شيء يؤدي إلى شيء آخر، إلى أن تجد نفسك في متاهة مظلمة، وبحسب وصفه فإننا نعيش بمرحلة «الحقبة الإنسانوية العابرة»، التي يتشارك فيها الإنسان والآلة، وهي مرحلة ما بعد الإنسان، نموذج الإنسان الخالي من الأمراض، لافتاً كيف استبدلت روح الجماعة بروح الفردية وليس الفردانية، وبالتالي أصبحنا منعزلين، فما عاد بال الإنسان طويلاً، لذهاب إلى عمق الأشياء، ومنه فإنه لا يعول على الفرد في أن يتضامن مع روح الجماعة، باتجاه تلك المواضيع المصيرية في العالم، ويعتبر برجس أن الهدف من كل هذا العالم الجديد، وتحديداً موضوع «الخوارزميات»، هي رسم العلاقات الجديدة بين الإنسان والإنسان، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز مسألة تخيل الأشياء الغريبة والعجيبة، نصل فيها لمرحلة إنساني وبشري، وهو أمر جيد، لكنه بالمقابل يطرح موضوع الهوية المقبلة للإنسان، فبالرغم من الفائدة الرقمية من حفظ الهوية الشخصية والمستندات الرسمية وتقديم الخدمات، إلا أنها تجعلنا نتساءل جميعنا حول أثر «الهوية الرقمية» أمام الهوية الإنسانية ببعدها الثقافي والاجتماعي والحضاري والجغرافي وغيرها.