ترجمة: أحمد حميدة

تقول الشّاعرة الفرنسيّة سنيا ساندوز، وهي تترصّد الوجود بعيون الطّفولة:«غياب الزّمن هو الذي يحفظ الطّفولة من كآبتنا. الطّفولة تطفو وتتمدّد. لا مستقبل تفكّر فيه، لا تاريخ يحدّدها.. ولا إحساس لديها بالنّدم. لا وجود للغد. ثمّة فحسب عرض أوبراليّ قوامه اللّحظات، عصارة عالم موهوب، خال من الترقّب أو الإحساس بالذّنب. تترحّل الطّفولة ولا تحتاج إلى ساعة، فتعبر السّهول، لا بوصلة لديها غير الشّمس، ولا أفق يتبدّى أمامها غير الضّياء. وليس للطّفولة من فكرة عن الطّريق الذي تسلكه، فتستحدثه. فيما بعد، سنلمس نعمة ذلك العهد الخالي من الزّمن، وما يفيض به من دهشة وسيولة، ومن شعر هو الوضوح ذاته، وذلك عند ملامستنا أيّ شيء من الأشياء. فيما بعد سنؤلّف كتباً وننظم ألحاناً، وسنغمس فرشاتنا في لوحات ألوان تومض بألوان السَّحَر. سنزرع ذاك الحصى الذي به، سنعيد تشكيل لعبة المربّعات بعيداً عن زرقة السّماء. ثمّ عند منعطف قصّة حبّ، وفي أحضان دهشة الإحساس به، سنشعر مجدّداً بنبض الطّفولة.. لنتلمّس، ونحن على مسافة إصبعين منها، أبديّة اللّحظة». فإذا كانت الطّفولة على مثل هذا القدر من الإحساس الأثيري بالوجود، وإذا كانت تحدس بوعيها البكر مفردات هذا الوجود في أبعاده الغامضة والسرّية، فهل تكون حقّاً، بحاجة إلى الفلسفة، كيما تعمّق وعيها به؟.

بين الطّفولة والشّيخوخة
إنّ الفكرة القائلة بأنّ الفلسفة يمكن أن تلقّن للأطفال في وقت مبكّر، ليست بالفكرة حديثة العهد. على أنّنا نلاحظ منذ العصور القديمة، وخاصّة منذ أفلاطون، انتشار الاعتقاد لدى الإغريق، بأنّ التّفلسف لا يتيسّر إلاّ بعد مسيرة تربويّة طويلة وشاقّة، يُفترض أن يكون المرء قد استوفي خلالها تملّكه معارف كثيرة، وذلك قبل الإقدام على التّفكير الفلسفي. وجميعنا يذكر ذلك الشّعار الذي يكون قد نقش على واجهة الأكاديميّة التي أسّسها إفلاطون: «لا يدخل علينا من لم يكن مهندساً»، أي، بعبارة أخرى، من لم يتلقّ تعليماً علميّاً متيناً، وخاصّة التّعليم الرّياضيّ.
ومردّ هذا التصّوّر إلى أنّ الفلسفة ذاتها، كان يُنظر إليها على أنّها علم، بل العلم الأكثر رفعة. وبوصفها كذلك، كانت تَفترض نضجا فكريّاً ومعارف مسبقة، يجعلان منها معرفة نخبويّة، لا ينفرد بها غير قلّة من العلماء.
و لم يكن لسقراط، الذي كان أفلاطون أحد مريديه، مثل هذا التصوّر. لقد أقرّ محدوديّة معرفته.. قائلاً: «كلّ ما أعرفه، هو أنّني لا أعرف شيئاً»، وذهب إلى عكس ما ذهب إليه افلاطون، معتبراً أنّ فعل التّفلسف، هو عمل نقديّ، يضع كلّ المعارف الشّائعة موضع الاختبار، ولا يُفترض منه بالضّرورة أن يقدّم لنا معرفة بديلة. ومن هذه الزّاوية، قد ندرك أنّ التصوّر السّقراطي، كان قد انطوى ضمنيّاً على إمكانيّة ممارسة مبكّرة لفعل التّفلسف.
وتناول موتاني تلك الإمكانيّة بالكثير من الوضوح، جاعلاً من التّفلسف حكمة، أكثر من كونه معرفة، وتفكّراً متاحاً للجميع منذ الصّبا الباكر، لا مجموعة معارف ممنهجة، كما كان يذهب إلى ذلك التّعليم المدرسي التّقليدي السّائد في زمنه، لذا كان له هذا التّأكيد..
«إنّه لخطأ جسيم أن نعتبر أنّ الفلسفة ليست في متناول الأطفال، طالما أنّها هي التي تعلّمنا كيف نعيش، وأنّ للأطفال نصيبهم من تلك المعرفة، كما هي الحال بالنّسبة للأعمار الأخرى، فلماذا لا نمنحهم فرصة للتّعاطي معها. لتتخيروا خطابات فلسفيّة بسيطة! ولتتحرّوا في اختيارها! وستلاحظون أنّها أكثر يسراً من قصّة لبوكّاتشي. إنّ الطّفل لقادر منذ الصّغر على التّعاطي معها أكثر من قدرته على تهجّي القراءة والكتابة. (...)».

الفلسفة والطّفولة
يكون بإمكاننا على ضوء ما سبق، الإقرار بوجود قرابة وثيقة بين الفلسفة والطّفولة، فالطّفل هو ذلك الكائن الذي يكون بلا جدال.. إنسانيّ منذ البداية، وإن كان غير متعلّم، فهو بصفته الإنسانيّة تلك.. خبير بالأشياء، وتبعاً لذلك يكون بكلّ بساطة إنساناً، وإن لم يَعُد بَعدُ فرداً في المجتمع، أو منتمياً إلى ثقافة محدّدة.
لا شكّ في أنّه لن يكون بإمكاننا إقامة تكافؤ تامّ بين حالة الطّفولة والموضوع التّقليديّ للعقل الطّبيعي، لأنّه من المنظور العقلانيّ، لا مجال لفصل ذلك العقل عن شرح يفترض استخدام اللّغة والتفكّر والاستدلال والبرهنة. وكان روسّو قد عدّل ذلك المنظور مؤسّساً بديهيّات العقل الطّبيعي على وعي بالذّات.. يحيل، لا على حدس ذهنيّ بالكوجيتو كما جاء في فلسفة ديكارت، وإنّما على حبّ الذّات، على إحساس بالامتلاء، يتوافق فيه الإحساس بالذّات مع شعور بالسّعادة، وإحساس بالوجود بوصفه خير محض.
لا يعني التّفلسف حينئذ توظيفاً عسيراً لشكّ منهجيّ، قد يتدرّج ببطء وصعوبة، نحو وضع الأفكار والمعارف المكتسبة موضع السّؤال، لأنّ الأمر يستدعي منّا بالأحرى أن نعيد التّموضع، بعمليّة انقلاع قاسية، في وضعيّة تتّسق مع الذّات، وتسمح بانتقاد اليقينيّات الزّائفة المألوفة في المجتمع.
أن نتفلسف مع الأطفال، أو أن ندعهم يتفلسفون، فإنّ ذلك يعني بشكل ما، أن نستعيد ذلك الفعل المتيسّر لكلّ فيلسوف. فإذا كان الطّفل «ساذجاً» بامتياز، يكون التّفلسف حينئذ هو استعادة حالة البراءة التي تميّز الطّفولة، مع الإبقاء على إمكانيّة التفكّر في تلك البراءة، وترجمتها إلى خطاب يفهمه الجميع.

البديهيّات
إنّ الرّاشد الذي يتفلسف، يتشوّف إلى استعاد طفولته، طالما أنّه سيحاول القبض من جديد على البديهيّات الأولى للوجود، قبل أن تبهتها التّفاهة والثّرثرة، غير أنّه لن يكون الطّفل الذي كان، لأنّه لا يستطيع غير التّظاهر بالبراءة.. والتخلّص من المعارف التي يكون قد اكتسبها. والعكس بالعكس، فإنّ الطّفل الذي يتفلسف لا يغدو راشداً، طالما أنّ فعل التّفلسف لن يمنحه المعارف والمهارات التي سيوفّرها له لاحقاً.. التّعليم. غير أنّ فعل التّفلسف والتفكّر في طفولتنا، والإفصاح عن تجاربنا، يمكن أن يجعل منّا راشدين آخرين، راشدين لم يتناسوا الطّفل النّائم بداخلهم.
عن مقال لـ فرانسوا غاليشيه