محمد نجيم (الرباط)
«الكتابة عن الراحلين.. هل هي كتابة مناسبات، أم أن الرحيل مناسبة للكتابة وباعث الرثاء الأكثر عراقة في الوجود، بيد أن طرق الرثاء تنوعت وتلونت وأخذت أشكالاً غير شعرية في عصرنا؟ وإن كان وصف المناقب يكون في صلبها، إلا أنها تمزجه بالعطاء، إذاً، الراحل صاحب نتاج ثقافي أو أدبي أو فنّي، أو يكون انطباعاً نتج عن أثر تركه في ذهن وذاكرة كاتبه. أحد أشكال هذا الرثاء مقالة انبثقت من لحظة فراق، أو أتت على هيئة رواية طويلة تستكنه تفاصيل الشخصية الراحلة، وتذهب إلى تخيُّل الاحتمالات والممكنات».
تلك تساؤلات من مقدمة الروائي والكاتب العماني محمود الرحبي لكتابه الجديد «حقائب خفيفة للراحلين»، وفيه يكتب عن صديقه الشاعر الإماراتي الراحل ثاني السويدي، قائلاً: «لم يترك في حياته من الكتب المطبوعة سوى ديواني شعر، صدر أولهما «ليجفّ ريق البحر» في 1990، وثانيهما «الأشياء تمرّ» بعد عشر سنوات. وبينهما أصدر روايته الوحيدة «الديزل» في 1994، وكانت بمثابة قنطرة عبور لإبداعه إلى عدّة لغات». ويضيف: «يعود آخر لقاء لي بثاني إلى نحو ربع قرن، إلا أنه لا يمكنني أن أنسى رحلتنا البرّية الطويلة، من عمّان إلى بغداد، لحضور مهرجان المربد في 1996». ويرى الرحبي أن القصيدة عند السويدي «تتخلق من البراءة والذكاء الفطري، وهذان عاملان يبدوان وكأنهما قادمان من خارج العملية الإبداعية، ولكن الحقيقة أن الكتابة، وبالذات الشعرية، مرتبطةٌ فنياً بصدق الشعور. اضطرّت الظروف ثاني السويدي، في سنواته الأخيرة، لأن يعيش متنقلاً، جائلاً بين أكثر من بلد وفضاء».
ثلاثي القاع
ولأن الرحبي قضى سنوات عديدة في المغرب للدراسة خلال تسعينيات القرن الماضي، فقد صادق الكثير من الأدباء المغاربة وأعجب بكتاباتهم وعوالهم السردية، فتراه يكتب عن القاص والروائي إدريس الخوري، قائلاً: «يختلط أحياناً اسم إدريس الخوري بالقاص المصري يوسف إدريس، ولكن لِمَ الارتباك؟ لأنه إذا كان إدريس أحد الأقلام المُجدّدة في القصة العربية، فإن الخوري له أهميته في هذا الجانب، مع فرق تقني، أن إدريس الخوري كان يهتم بالصياغة التشيكوفية، التي تعنى ب «القفلة» المُفاجئة.
ما عدا ذلك، فإن الكاتبين كانا يستلهمان متخيّلهما القصصي من الطرقات ومن القاع والهامش والاهتمام بما لا يفيد في ظاهره والخارج عن الحسابات «الكبيرة». ويقول الرحبي: «وكان من حسن حظي أني قرأت بعض قصصه قبل زيارتي للمغرب في بداية التسعينيات للدراسة، إضافة إلى قصص محمد زفزاف ومحمد شكري، ويمكن القول إنّهم يشكلون «ثلاثي القاع»، وكانوا من «أساتذتي» في كتابة القصة ولو من بعيد. لم ألتق «زفزاف» مع الأسف، أما شكري فكنت أبادله التحية حين أصادفه في مقهى باليما بالرباط أو في وادي المخازن في أصيلة مع الأصدقاء».
كونديرا وآخرون
وقبل أن ينهي الرحبي كتابه بمقالة عن رحيل رائد الواقعية السحرية غابرييل غارسيا ماركيز، يكتب مرثية أخرى عن الروائي التشيكي العالمي الشهير ميلان كونديرا، معتبراً رحيله خسارة كبرى أصابت الأدب العالمي. مشيراً أن كل روايات كونديرا تشكل أفق انتظار للقارئ، ومنه العربي الذي يتداول معظم رواياته ويحفظ عناوينها، وهذا ما دلت عليه وسائل التواصل الاجتماعي يوم رحيله، حيث جرى تداول عناوين رواياته مقرونة بخبر وفاته، في دلالة على انتشار هذه الروايات أو على الأقل عناوينها، القريبة حتى من طبيعة الكاتب الذي اتصفت إصداراته ب «البطء» كما عنوان إحدى رواياته، حيث ترى مسافة طويلة بين كل إصدار وآخر.
كما أنها تدين «الجهل»، نظراً لامتلائها بمجموعة كبيرة من المعارف بين تاريخ وسياسة وعلم نفس، فهو حين يكتب، وإن بدأ بلفتات حميمية، إلا أنه يجعل من الزمن والتاريخ المترامي حلبة ارتدادات واسعة، وهو الذي يعكس عنوان رواية له حياته، نتيجة انتقاله القسري من تشيكوسلوفاكيا إلى باريس «الحياة في مكان آخر»، وهو الذي عمّر كثيراً، إلى أن وصل إلى الرابعة والتسعين. وهنا تمكن الإحالة، تجاوزاً، إلى روايته «الخلود». كما أن طبيعة مادته الروائية ونسغها تتأرجح بين الجد والهزل، الضحك والنسيان» أحد عناوين رواياته. ويرى الرحبي أن لكل كاتب مؤثر بصمته وطريقة كتابته، أو «خلطته» إن صح التعبير.
شخصيات
ويكتب الرحبي عن شخصيات أخرى رحلت عن عالمنا من بينها: عبدالله الحارثي، عبدالله الوهيبي، حسن بوس، محمد نظام، مبارك العامري، علي المعمري، محمد الحارثي، عبدالعزيز الفارسي، شاكر عبدالحميد، صباح فخري، حسن الفارسي، أمجد ناصر، صالح شويرد، موسى عمر، غسَّان كنفاني، فتحي عبدالله، أحمد المجاطي، ماركيز، وأبو بكر سالم، عبدالله الطائي، فريد رمضان، سركون بولص، نجيب محفوظ، وآخرون.