الفاهم محمد

الآن بعد هذه المغامرة الشاقة التي أمضتها البشرية في رحلة البحث عن الحقيقة، واستكشاف آفاق المعرفة، آن الأوان من أجل تقديم أهم الخلاصات، والمبادئ النظرية التي من شأنها أن تعكس جوهر الواقع، وتكشف عن أسمى أبعاد الوجود. يتعلق الأمر إذن ببلورة رؤية فلسفية، يمكن أن توجه تصورنا للمستقبل. فالتحول الحضاري الذي نعيشه حالياً، يقتضي بالمثل تحولاً في المنظور الفكري. وكأن العقل يتعلم من دروس الماضي، كي يرسم مخارج جديدة لما هو قادم.  
وثمة فلسفة عظيمة قد بدأت تلوح معالمها في الأفق. إنها فلسفة الوجود الشامل والتي تفترض وجود حقيقة متعددة الأبعاد تتفاعل داخلها مجموعة كبيرة من العناصر التي يصعب اختزالها في متواليات محددة. ولكن رغم هذا التعقيد والترابط، فالوجود يظل مع ذلك يشكل كلاً واحداً. ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية لفلسفة الوجود الشامل في الوصايا العشر الآتية:

1- الوجود الشامل والمتطور
حيث يقتضي النظر إلى الكائنات والظواهر، ككليات متكاملة ومترابطة مع بعضها بعضاً. فالتفاعلات داخل النظم الحية، تؤدي إلى تكوين أشكال معقدة ومتنوعة أعلى من سابقتها. هذا التطور الإبداعي والخلاق لا يقتصر فقط على عالم الطبيعة، بل هو يتجلى كذلك حتى في العالم البشري. حيث يتفاعل الأفراد والثقافات والمؤسسات، داخل نظم دينامية تطورية. تعمل إذن فلسفة الوجود الشامل والمتطور، على تجاوز الفكر الاختزالي الذي دأب على النظر إلى الظواهر كأجزاء منفصلة، فالوجود لا يدرك كجزء بل ككل.

2- استكشاف غموض الوجود
في هذه الفلسفة لا يمكن النظر إلى الوجود، كما لو كان كتاباً مفتوحاً يمكن تصفحه صفحة تلو الأخرى، ومعرفة كل ما بداخله على غرار ما كانت تعتقد الميتافيزيقا الكلاسيكية. فغموض الوجود هو جزء أساسي من تجربتنا الشخصية، وبُعد مكون للشرط البشري. وهذا على عكس ديكارت الذي نظر إلى الوجود، باعتباره مجموعة من الخصائص الفيزيائية البسيطة.

3- التوازن والتكامل الشامل
تركز هذه الفلسفة على ضرورة تحقيق التوازن الشامل، بين مختلف جوانب الحياة، كالعقل والجسد والروح والفرد والمجتمع. وبشكل عام التوازن بين الإنسان والطبيعة؛ لأنه في مثل هذا التوازن يمكن للإنسان أن يعيش تجربة التحول الروحي، وتحقيق التناغم الداخلي للذات. سواء عبر التأمل الإيجابي، أو التواصل الفعال والتحكم في الضغوط، أو ممارسة اليقظة والاندماج في ثراء اللحظة الحالية.

4- استكشاف الذات وتجربة المعنى
تؤمن هذه الفلسفة أن الحياة ما هي إلا تجربة نخوضها من أجل استكشاف المعنى، وتحقيق الذات، والتحول الشامل، من أجل السعادة الممكنة. يحدث ذلك عندما نتجاوز ضجيج العالم الخارجي، ونتوجه نحو الداخل، نحو محراب الصمت والتأمل. إن هذا هو ما سماه فكتور ايميل فرانك «العلاج بالمعنى» فالبحث عن المعنى في الحياة يمنح الأفراد القوة والصمود، في مواجهة التحديات ومكابدات الحياة.

5- الانفتاح على البعد الميتافيزيقي
تعتبر فلسفة الوجود الشامل، أن الوجود لا يمكن أن يرتد ويختزل فقط فيما هو معطى مباشرة للحواس. إن إحدى الفتوحات العظيمة للفلسفة الكوانطية، تكمن في تقويضها لأسطورة المادة، التي قامت عليها الميكانيكا الكلاسيكية. لقد كانت هذه الأخيرة تعتقد أن المادة تتصرف وفقاً لقوانين دقيقة قابلة للتنبؤ، وأن العالم المادي يتكون من جسيمات صغيرة، تتحرك بطرق محددة ومحسوبة. على العكس من ذلك تنتهي الثورة الكوانطية، إلى أن العالم ليس مجالاً ثابتاً ومستقراً كما كان يعتقد سابقاً، فمن خلال مفاهيم كالتشابك الكمي، والتراكب غير المحدد، وتداخل الذات الملاحظة مع الموضوع الملاحظ، كل ذلك أدى إلى توسيع تصورنا لمفهوم الواقع والحقيقة. مثل تفسير العوالم المتعددة  multiverse الذي يقترح وجود أكوان أخرى موازية لعالمنا. أو اقتراح وجود المتغيرات الخفية، التي تحكم حركة الجسيمات الكوانطية.

6- خصوبة الدلالة ولانهائية المعنى
تؤكد فلسفة الوجود الشامل أن الحياة، ما هي إلا رحلة يخوضها الإنسان من أجل اكتشاف معنى هذا الغموض، وهو معنى بالضرورة لا نهائي بفعل تعدد الدلالات وغناها. وبأن الإنسان يتطور وينمو من خلال تحولات المعنى هذه، وأن أكبر معنى يمكن أن يكتشفه الإنسان يكمن في رحلة الحياة ذاتها. هذه الوصية مستمدة من فلسفة الهيرمينوطيقا التي تؤكد على لانهائية الدلالة، وعلى الدور الفعال الذي يمكن أن يلعبه القارئ، ليس كمجرد مستقبل للمعنى المعروض، بل كعملية تفاعلية إيجابية، تثمر في خصوبة الدلالة وتعدد التأويلات.

7- الوعي الممتد
تنظر فلسفة الوجود الشامل إلى الوعي، باعتباره ظاهرة كونية شاملة، وليس مجرد قوة إدراكية بشرية. فكل شيء يمارس الوعي بطريقته الخاصة. هناك وعي لدى الحيوانات، كما تثبت أبحاث كل من مارك بيكوف، وجين غودال، ولوري مارينو.. وهناك وعي كذلك لدى النباتات، حسب دراسات كل من ستيفانو مانكوسو،  وميكائيل ماردر. بل هناك وعي ضمني وشامل للكون برمته، كما لدى جالن ستراوس، وغريغ برادن. من أجل هذا الاعتبار، وجب على الإنسان دائماً أن يعمل على توسيع وعيه الخاص، كي يتفاعل بشكل إيجابي مع كافة مكونات الوجود. إن مثل هذا التفكير الشبكي يوضح لنا أن وجودنا، يمتد أبعد من حدود وعينا.

8- المسؤولية الشاملة
تدعو هذه الفلسفة إلى ضرورة اضطلاع الانسان بمسؤوليته الشاملة، ليس فقط اتجاه الأجيال القادمة، كما قال هانز يوناس، ولكن أيضاً اتجاه الماضي كذلك. والمقصود بذلك فهم التاريخ وتعلم الدروس المستفادة منه، وكذلك ترميم ومعالجة المظالم والتجاوزات التي حدثت في الماضي، وإصلاح الضرر، وتعزيز العدالة والمساواة.

9- الإرجاء وتعليق الحكم
تشدد الفلسفة الشمولية، على أن القضايا الشائكة والحساسة، خصوصاً تلك التي تدخل في صلب العقيدة، قد بلغت سقفها التاريخي، لذلك فإن الخوض فيها من شأنه أن يؤجج النزاعات والصراعات. لذلك لا يمكن فرض عقائد ثابتة على العالم، وبالتالي وجب الاحتفاظ بروح التواضع. وبدل الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة،  يجب إذكاء روح الاستكشاف والتساؤل، وقبول الاختلاف والانفتاح على الآخر.

10- الفن والقدرة على الإحساس الجمالي
ترى هذه الفلسفة أن الإنسان يجب عليه أن يدرب نفسه باستمرار، على امتلاك الحس الجمالي، ليس فقط من خلال الاهتمام بالأعمال الفنية: أدب، سينما، تشكيل، موسيقا... ولكن أيضاً بإدراك اللحظات الحية والعميقة للحياة اليومية. بالجمال يمكن أن نهزم قبح العالم من أجل تعزيز الشعور بالسعادة والراحة النفسية والصحة العقلية، خاصة وأن الجمال له بعد إنساني، يعبر عن لغة عالمية تتجاوز حواجز اللغة والثقافة.   
هذه إذن هي الوصايا العشر لهذه الفلسفة الجديدة. ولو أردنا إضافة الوصية الحادية عشرة، ففي اعتقادي أن حبة الكرز التي يمكن وضعها فوق هذه الكعكة الفكرية، لن تكون سوى الحب والسلام، كرؤية شاملة للكون، وكدافع حيوي يعزز التواصل والتعايش، بين الأفراد والمجتمعات.