القاهرة (الاتحاد)

في روايته «قتلة زهرة القمر»، تناول الصحافي والروائي الأميركي ديفيد غران تاريخ تنظيم عصابي من السكان البيض في أميركا تفنن في ارتكاب ممارسات قاسية بحق السكان الأصليين من الهنود الحمر في أميركا الشمالية، وخاصة أفراد قبيلة «الأوساج» خلال الفترة من 1921 إلى 1926، بهدف الاستيلاء على ثرواتها بعد اكتشاف الذهب الأسود، بالإضافة إلى إنشاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، وتسمية تلك الحقبة في أدبيات التاريخ الأميركي بـ«عهد الإرهاب».
وجاءت الرواية التي صدرت أصلاً في أبريل 2017، في ثلاثة أجزاء.

تحفة سينمائية
وقد حول المخرج مارتن سكورسيزي رواية «قتلة زهرة القمر»، إلى تحفة سينمائية، بأسلوب شيق بالغ الجاذبية للمشاهد، لفهم ما تعرض له «الأوساج» على أيدي السكان البيض، وتأريخ التعديات والممارسات القاسية التي ارتكبت بحق هؤلاء الهنود الحمر الأبرياء وتعرضهم للاستغلال والاضطهاد، بل إن كل من حاول مساندتهم من ذوي البشرة البيضاء تم استهدافه هو أيضاً وتشويه سمعته بصورة بشعة، ما فتح باباً جدلياً في الأوساط الثقافية والفنية والسياسية لمناقشة جوانب من هذا التاريخ الصعب الذي كابده السكان الأصليون.
وعن الجوانب الفنية في هذا الفيلم قال الناقد الفني مصطفى الكيلاني لـ«الاتحاد» إنه على رغم طول الفيلم (206 دقائق) فإن المشاهد يكاد لا يستطيع الابتعاد عن الشاشة، طيلة فترة عرضه، بفضل الإيقاع الهادئ وأسلوب التشويق الجذاب في محاولة لاستثارة المشاعر بجرأة، وتعظيم التعاطف الوجداني لدى المتلقي مع معاناة الهنود الحمر، وتقديم ما يشبه العريضة الأخلاقية والقيمية، بكشف الحقائق، وما حدث من تعديات وممارسات صعبة لا تطاق.

حيف تاريخي
ويسرد الفيلم جوانب من الحيف التاريخي الذي تعرض له الهنود الحمر «الأوساج»، وكيف أصر تنظيم عصابي على تصفيتهم بالرصاص أو السم، وحكم جهات رسمية أيضاً يومذاك على السكان الأصليين بأنهم محدودو القدرة العقلية، ويجب أن يكون لكل واحد منهم وصي من ذوي البشرة البيضاء يشرف على أمواله ويتصرف فيها كما يشاء.
ومن اللافت أن المخرج نجح في توظيف الموسيقى التصويرية بشكل ذكي، وكأنها أحد ممثليه البارعين على الشاشة، وقد جاءت في نمط متفرد ومتوازن، وجمعت بين موسيقى هنود «الأوساج»، ومعزوفات الريف الأميركي، وقد جاء هذا التركيب الموسيقي للتعبير عن ازدواجية وتعقيد الأحوال التي يعيش فيها «الأوساج»، وقد ظهر ذلك بحدة في مشهد وصول المحقق الفيدرالي للمرة الأولى لإنقاذهم من واقع معاناتهم وظروفهم الصعبة.

الاختلاف الفني
وجاء الفيلم مختلفاً عن النص الأدبي، إذ أغفل المخرج سكورسيزي الجزء الثاني من الرواية، وقام بتعديل السيناريو في الجزء الأول، وتم تغيير مشهد النهاية، وحاول تسليط الضوء أكثر على دور مكتب التحقيقات الناشئ آنذاك في معاناة ومكابدات «الأوساج».
وعن هذا الاختلاف بين النص والشاشة قال المخرج، خلال لقاء صحفي مع إحدى المجلات الأميركية، إن النمط السردي لرواية الكاتب غران، لا ينجح سينمائياً لأن الهوية البصرية لمن تستهدف نقدهم والتنديد بممارساتهم ستكون واضحة للمشاهد بشكل يمكن إنجازه بطريقة إبداعية أخرى.
هذا إلى جانب أن التعديل جعل دور محقق الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي أكثر فاعلية في البحث عن أسباب القتل الممنهج، وهذا ما غفلت عنه الرواية، لأننا جميعاً نعلم الضالع الحقيقي مسبقاً، كما منح المخرج أفراد «الأوساج» مساحة أكبر للتعريف بمعاناتهم، وبخصومهم بوضوح، وجعل المتلقي قريباً من الحدث الذي وقع قبل قرابة أكثر من قرن.

توافق الرؤى
وهكذا توافق الكاتب والمخرج على هذه الطريقة رواية ما جرى وسرد الأحداث المؤسفة التي تعرض لها «الأوساج» مع التنديد بقوة بالجهات التي قصّرت في مواجهة الممارسات والتعديات التي تعرضوا لها، وانتهى الاثنان إلى إطلاق بارقة أمل لأفراد القبيلة، حيث يتحدث غران عن الأحفاد وما حققوه من نجاحات وامتداد لمسيرة الأجداد، وقد وظف الفيلم ذلك ببراعة من خلال مشهد علوي لأفراد القبيلة الحاليين، وهم يرقصون داخل دائرة حول مجموعة من قارعي الطبول على موسيقاهم المحلية.