إيهاب الملاح

- 1 - على مدار ما يقرب من 80 سنة، ونجيب محفوظ يملأ الدنيا ويشغل الناس. هو بهذا المعنى «متنبي» عصرنا الراهن، وهو بمعنى آخر «شكسبير» الثقافة العربية الذي لم ينقطع حضوره ولا وهجه ولا تأثيره، ولا تلك المساحة الهائلة من قارة الإبداع العربي المعاصر، رغم رحيله عن عالمنا منذ ما يقرب من 20 عاماً!
إنه بحق الرجل الذي عمل بدأب وإخلاص وتبتل، و(بعناد الثيران كما وصف نفسه مراراً) لما يقرب من 70 عاماً (منذ نشر أول رواية له «عبث الأقدار» عام 1939) حتى ارتقى قمة الأدب العربي المعاصر منفرداً بغير منازع، قمة ارتقاها بـ 56 عملاً منها، 35 رواية، و19 مجموعة قصصية شكلت في مجموعها أكمل إنجاز سردي عربي معاصر في القرن العشرين، جمعت ولخصت، وأبدعت هموم الثقافة المصرية والعربية وجسدتها، وعبرت عنها بطرائق وتشكيلات جمالية فذة، جسدت رحلة الإبداع الحديث في فني الرواية والقصة، واستوعبت تياراتها ومذاهبها وانتقت منها، وأضافت إليها ما يناسب خصوصية الثقافة العربية، بل سعت أيضاً إلى اختطاط مسارات جمالية نهلت من التراث ووظفته، وبحثت عن ابتكار أشكال وقوالب جديدة أثرى بها محفوظ الأدب العربي والأدب العالمي على حد سواء.
ومع كل مناسبة تتجدد بذكرى ميلاده أو رحيله، أو حصوله على نوبل، تتجدد الدعوات والأمنيات بأن نتشارك جميعاً متعة اكتشاف هذه القارة الإبداعية العظمى في ثقافتنا العربية المسماة نجيب محفوظ، لا من باب المغالاة، ولا إهمال أي أصوات أخرى، إنما من باب احترام المنجزات الكبرى، وتقدير القيمة التي تتجدد وتثبت كل يوم أنها من عيون الإبداع العالمي، ومن كنوز التراث الإنساني. هكذا جاء فيما أظن اختيار نجيب محفوظ شخصية معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الجديدة 2024، تكريساً لمعاني البحث عن القيمة، والاعتزاز برموز ثقافتنا العربية من منطلق قومي عروبي راسخ، وتأكيداً على القيم الإنسانية والمثل النبيلة التي دافع عنها أدب نجيب محفوظ، من الإخاء والمساواة والبحث عن العدل والعدالة والحرية، والإيمان بالإنسان والإنسانية من دون نظر إلى تباين الأعراق واللغات والأجناس والأديان.
- 2 - نجيب محفوظ - بهذا المعنى - لا يقل قيمةً ولا مكانةً ولا حضوراً في ثقافتنا العربية، والثقافة الإبداعية العالمية، عن نظرائه في اللغات والثقافات الأخرى، هو يمثل للثقافة المصرية والعربية ما كان يمثله «كازانتزاكيس» للثقافة اليونانية، و«ماركيز» و«يوسا»، و«كورتاثار» لأدب أميركا اللاتينية، و«كاميلو خوسيه ثيلا» في الإسبانية، و«ساراماجو» في البرتغالية.. إلخ.
هذا ما أدركه بوضوح كبار نقادنا في ستينيات القرن الماضي، وبلوره في عبارة ناصعة الناقد الراحل لويس عوض الذي كتب «ونجيب محفوظ عندي كاتب من أولئك الكتاب القلائل في تاريخ الأدب في الشرق والغرب، كلما قرأته عشت زمناً بين أمجاد الإنسان، وقالت نفسي: ليس بفن بعد هذا الفن ولا مرتقى فوق هذه القمم الشاهقة»..
ثم أطلق لويس عوض مقولته المدوية التي صارت مثلاً وشاهداً شامخاً على قيمة الأثر المحفوظي، وتأسيسية النص المحفوظي في أدبنا العربي الحديث والمعاصر:
«وما عرفت كاتباً رضي عنه اليمين والوسط واليسار ورضي عنه القديم والحديث، ومن هم بين بين، مثل نجيب محفوظ، فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي نقرأ عنها، ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها، وهي مع ذلك قائمة وشامخة، وربما جاءها السياح، أو جيء بهم ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة».
والأغرب من هذا، أن هذه المؤسسة التي هي نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب، بل هل مؤسسة شعبية أيضاً يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار في القهوة، وفي البيت، وفي نوادي المتأدبين، وتجمعات البسطاء».
- 3 - يوازي هذا الحضور الجماهيري، وهذه المقروئية العالية والنافذة والعابرة للطبقات والأجيال والحدود، حضوراً نقدياً مذهلاً، فلا مقارنة بين ما كتب عن نجيب محفوظ نقدياً، وما كتب عن بقية الروائيين والقصصيين في العالم العربي، وهذا ليس عيباً ولا تمركزاً حول مركزية محفوظ كما يحلو لبعضهم أن يردد، أبداً، إنما هو التجربة الأكثر اكتمالاً ونضجاً وتمثيلاً للروح المصرية والعربية والثقافة العربية، ولهذا مثل بأعماله السردية طوال الوقت - وسيظل فيما أتصور - مغرياً بالقراءة والتحليل والمقاربة. 
ولعل هذا الثراء والاكتناز المذهل من طبقات المعنى والدلالة ومستويات التركيب والتشكيل النصي والجمالي هي ما حدت بناقد في قيمة ووزن جابر عصفور، رحمه الله، كي يخصص دراسة من أهم دراساته في نقد النقد بعنوان «نقاد نجيب محفوظ» (نشرت في صورتها الأولى عام 1981 بمجلة فصول النقدية، ثم أعاد نشرها في كتابه «نجيب محفوظ الرمز والقيمة» عام 2011) رصد فيها العديد من المداخل والمقاربات والمفاهيم النقدية والمناهج التي عالجت نصوص محفوظ، وقدمت تحليلات، وتفسيرات متنوعة ومتعددة بتنوع وتعدد النقاد أصحاب هذه المعالجات، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن التركيز على المضمون الموضوعي إلى تحليل الشكل الفني، وعناصر السرد الروائي، والبحث عن مسارب للتجريب.. إلخ.
كان نجيب محفوظ الكاتب والروائي العربي الأكثر معالجة وقراءة ونقداً وتحليلاً ودرساً في مصر والعالم العربي، أصبح أدبه وأصبحت رواياته مادة لتناولاتٍ جمالية، واجتماعية، وصوفية، ووجودية، وفلسفية، وبنيوية، وتفكيكية.. إلخ ما يمكن أن يحصيه ويستقصيه ناقد نشط يقظ دؤوب.
وما زال حتى وقتنا هذا يزداد الطلب على تقديم المزيد من القراءات التفصيلية، وتحليل وتفكيك نصوص محفوظ، كما رصد غير ناقد وباحث في السنوات الأخيرة، وإن كان يشوب معظمها الخفة والنقل والاستسهال والبعد عن سبر أغوار النص المحفوظي الذي لا يسلم قياده إلا لمن أخلص لقراءته وأنصت لهمسه، ومثل هذا الإنصات لن يظهر في كتابات عامة الغرض منها مخاطبة شرائح بعينها من قراء شباب، فكل ما نأمله كنقاد أن يتعرف هؤلاء على الإنتاج ويقرأونه، ويخطون خطوات تؤهلهم للوعي بالذائقة، ومحاولة صقلها كمرحلة أولى.
- 4 - ورغم ذلك كله، ووضوحه بما لا يحتاج دليلاً على إثباته أو تأكيده، فإن هناك من يسأل، وسيظل يسأل: لماذا الانشغال بنجيب محفوظ حتى الآن؟ أما كفاكم الحديث عنه في حياته وحتى بعد رحيله؟
الإجابة كما استخلصتها من عشرات الدراسات، ومقولات كبار النقاد في مصر والعالم العربي والغربي على السواء: لأن نجيب محفوظ أول كاتب مصري وعربي في العصر الحديث، يُعبِّر من خلال الكتابة الروائية، وباللغة العربية، عن جوهر مصر التاريخي والاجتماعي والثقافي، وعن صراعات الثقافة المصرية والعربية في العصر الحديث، والتباساتها الحضارية، وعن كل إشكاليات النهوض والتحضر والتمدن، وسؤال العدل الاجتماعي.
ثانياً، كان نجيب محفوظ يكتب وهو مغرق في محليته لتكون طريقه بأصالةٍ واقتدار وتمكن إلى العالمية، كان يكتب النماذج الإنسانية التي يقرأها المصري والعربي فيشعر أنه يعرفها، ويعيش معها، ويلتقي بها في الطريق، وفي سائر حياته اليومية، ويقرأها غير المصري وغير العربي فيكتشف أن هناك صلاتٍ بينه وبينها في المشاعر والأفكار والهواجس والمخاوف والآلام، وهو بهذا المعيار كاتب إنساني عالمي.
ثالثاً، ورغم استيعابه كل تفاصيل المحلية، فإنه لم يكن يكتب أبداً بمنطق الكاتب المحلي الذي لا يعرف أبعد من حدود هذه المحلية، كان يعلم أنه لا يقدم منتجاً محلياً يتم التعامل معه في دائرة صغيرة ضيقة، اسمها مصر ضمن العالم العربي والإسلامي أو الشرق الأوسط بالمصطلح المتداول في الدراسات الأكاديمية الغربية.
- 5 - كان محفوظ يكتب وفي ذهنه أنه ليس أقل من «دوستويفسكي» عظيم الكتاب الروس، أو أقل من «وليم فوكنر» عبقري الأدب الأميركي، أو «توماس مان» مفخرة الألمان، كان على ثقة من أنه لم يكن أقل من أي كاتب كبير في أي لغة من اللغات، وأي أدب من الآداب، 
وكان يعتقد اعتقاداً حقيقياً بأنه لا يقل قدرة ولا مكانة ولا وعياً عن أي كاتب آخر، كان يكتب بهذا المعنى، وبهذا المعنى أيضاً تلقاه العالم واستجاب له وقدَّره حق قدره. يبلور هذه الفكرة بدقة الناقد الكبير، محمد بدوي، أحد العارفين بمحفوظ وأدبه، فيقول:
«نجيب محفوظ كاتب من الطراز الأول، وهو أيضاً ابن الثقافة العربية الإسلامية التي بدأ العالم محاولات التعرف عليها منذ نحو 40 أو 50 سنة، فيما هي تلوح لبعضهم في الخارج ضبابية مشوشة غير واضحة، ناقصة، غير مكتملة.. إلخ.
جاء نجيب محفوظ بمشروعه الكبير لكتابة سردية الهوية المصرية (والعربية) من منظورٍ تعددي، هذه الكتابة التي تظهر بأسمى تجلياتها في أعماله كاتباً، وتتجسد في تصرفاته وسلوكياته إنساناً منذوراً لهذا الإنجاز العظيم».