رغم قوة المتنبي وصلابته لكنه يذوب عذوبةً ورشاقة لفظية حتى لتبدو بعض كلماته وكأنها تنزف تشوقاً وتلهفاً، مثلاً يقول:
وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌ وَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ
وهذه كلمات تنزف بالمعاني من حيث هي تجري مجرى تعشق القول، فالسؤال هو الصيغة الأشد في اللغة، ولا أشد منه إلا لغة الزجر والنهي، غير أن الزجر إغلاق للقول، بينما السؤال فتح لفضاءات القول، ولكن ماذا لو تنازل السؤال عن وظيفته وتجرد عن استنزافيته، وأصبح سبباً لذاته، وليس مفتاحاً للأجوبة، فهو هنا تشوق واشتياق، وترداده تعليلٌ له، أي تكرار وإعادات متصلة، ويظل يسأل لا ليجيب، ولا يطلب من غيره جواباً، ولكنه يسأل وكفى. وقد قال المتنبي هذه القصيدة وهو مفعم بالأمل والتطلع والتشوق، وهي حال جعلته يخاطب الرياض التي يمر بها بقوله: (حلبٌ قصدنا وأنت السبيل)، وهو أيضاً لا يقصد حلب بوصفها أرضاً، ولكنه يطلب شخصية كانت حينذاك شخصية متخيلة ومرسومة في ذهن المتنبي الذي تصور شخصية سيف الدولة الحمداني بوصفها الشخصية المطلوبة والمتمناة لهذا الشاعر القلق الذي طغى طموحه فوق طاقته المكانية والزمانية، وراح يطلب زمناً يختاره برغبته اختياراً ويرتحل إليه، ومن أجله يدخل في حوار مع المكان فيقول:
نَحنُ أَدرى وَقَد سَأَلنا بِنَجدٍ أَقَصيرٌ طَريقُنا أَم يَطولُ
وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌ وَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ
لا أَقَمنا عَلى مَكانٍ وَإِن طابَ وَلا يُمكِنُ المَكانَ الرَحيلُ
كُلَّما رَحَّبَت بِنا الرَوضُ قُلنا حَلَبٌ قَصدُنا وَأَنتِ السَبيلُ
وهنا هو يخاطب المكان بأنه ليس مقصوداً بوصفه طريقاً يطول أو يقصر، ولكنه فقط يستمتع بلعبة التمدد والقصر، وكلما قصر طال، وهو يدرك الجواب ويعرفه إلا أنه يحتاج إلى أن يتكلم، فقط يتكلم، ويمدد في القول، والمتنبي بوصفه شاعراً، فإن الكلام هو معناه ووجوده، ولا يريد للكلام أن ينتهي، ولا للشوق أن ينتهي، وكل شوق هو مزيد تشوق، وكل سؤال هو تعليل (ترديد) للقول، وفي قصيدة أخرى يقول:
طَرِبَتْ مَراكِبُنا فَخِلنا أَنَّها
لولا حَياءٌ عاقَها رَقَصَتْ بِنا
وكل هذا يقوي سردية ترداد القول والطرب للرحلة، وكلما طالت زاد الشوق وتطلعت القصيدة للولادة والانبثاق، وتطرب المراكب معه لأنها تنتظر القصيدة.
على أن تجربة المتنبي تشير دوماً إلى مغادرته المألوف، مع تطلعه لغير المألوف، فقد ترك العراق من أجل حلب، وترك حلب من رغبة بمصر، وترك مصر متطلعاً لخراسان، ثم أخيراً ترك خراسان لكي يموت في طريق العودة، ربما مات، لأن مراكبه تلك المرة لم تطرب، لأنها لم تكن تحلم بوصولٍ، أي وصول، بعد أن تسددت في وجهها الدروب تبعاً لضياع المتنبي بين الأماكن، لدرجة أنه لم يعد يبحث عن أي مكان، وهنا كادت له منيته لتنهي ترحاله وتضعه في كتاب التاريخ والذاكرة.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض