لو فكرنا بحضور المتنبي الذهني ومن ثم حضوره بين قوسين أي بوصفه مادةً للاقتباس، فهذه حالة الاستحضار الثقافي الجمعي، وعلامتها هي أنها ترتبط بمستجدات الأحداث، وكلما حدث أمر وتشابه الأمر مع حدث سابق فإن مستلزمات الحدث تتفاعل مع الذاكرة وهنا تأتي الحاجة لاستضافة قولٍ قديم عن حالة قديمةٍ ليكون بمثابة قول جديد عن حالة جديدة، أو هو قول متجدد يعبر عن المستجد كما عبر عن حالته الأولى، وفي حال الاقتباس يكون تماثل الحالة الحاضرة مع الماضية شديداً لدرجة التماهي الذهني، وفي كثير من الحالات فإن الذاكرة تجنح لتوظيف مخزونها لتواجه به تحديات التعبير، ولقد كان المتنبي تفاعلياً بدرجة عالية قبل عصر التفاعلية الذي نعيشه الآن، ولو كان حياً بيننا اليوم لوجدناه من أبرز المغردين حضوراً وتفاعليةً، ولكنه رحل، وبقي ميراثه من التفاعلية حياً ولم يرحل معه، وهنا يكون حضوره في الاقتباسات قوياً لأن المادة المستحضرة هي مادة تتماثل مع صيغة التغريد، في تركيزها واختصارها وفي دلالتها المناسباتية، وهذه أسلوبيات تتميز بها شعرية المتنبي وقد مهر بها أبو الطيب بدرجةٍ مدهشة، وسنرى الآن أنه كان يغرد قبل ثقافة التغريد، ليس في شعره فحسب بل أيضاً في نظام تفكيره وفي صيغه التعبيرية، التي تجمع بين الحكمة والشعرية مع الاقتصاد اللغوي وحرارة المعنى وتفاعله مع أحداث الحياة مذ عاش هو حياةً قلقة ومتوترة وتقاطع مع أزمنة حياته بين الأمكنة والمواقع وتقلبات الظروف، وفي كل ظرف له قصائد تتضمن أبياتاً ظلت محل استحفاظ واستشهاد لم ينقطع قط.
ولا شك أن كل عربي وعربية بقيت في ذاكرتهم أشياء من المتنبي كقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
أو قوله:
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم
وغير ذلك من كثير أمثلة تجعل المتنبي هو الأكثر حضوراً في الذاكرة الثقافية العربية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض