هل ينوب المتنبي عنا في التعبير عن تعالينا الذي نحاول مواربته فيتولى أبو الطيب إعلانه دون مواربة، وتشهد على ذلك استشهاداتنا بشعره النسقي وتبريرنا له، وها هو المتنبي يقول:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الله وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
ويُروى أنه قالها في صغره وقبل أن يعلو شأنه، وربما تُساورنا شكوكٌ في صحة هذه الرواية، ومهما كان عمره حينها أو صحتها فإن هذه الأبيات تترجم نسقية المتنبي وتكشفها؛ فالمتنبي مغروس في معادلة الأنا والآخر، حيث لا تستقيم حال الذات عنده إلا بمحو الآخر، وإن كانت الأبيات هذه في بدايته وقبل أن يتواجه مع الآخر فإنه يعززها في كبره ويؤكدها بقوله:
واقِفاً تَحتَ أَخمَصي قَدر نَفسي واقِفاً تَحتَ أَخمَصَيَّ الأَنامُ
ومثله قوله: «أنا الطائر المحكي والآخر الصدى» هو الشهادة القطعية على صحة نسبة الأبيات الأولى له حقيقةً أو تلبيساً، لأن الشطر الأخير يعزز معنى الأبيات المبكرة، وهذا من باب تفسير الشعر بالشعر كما طرحته في كتابي «الخطيئة والتكفير»، حيث يصنع السياق الشعري لمنظومة قصائد شاعر ما نظاماً دلالياً ينبني عليه معجمه الدلالي والمجازي ويكشف عن مضمرات خطابه. والمتنبي مسكون بهذه الحالة الانشطارية بينه وبين الآخرين، فهو بالضرورة النسقية خير منهم كلهم:
«سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من سارت به قدمُ»
وهذه حالة شعورية تجعل الذات مطلقةً ومتعاليةً وتجبر غيرها ليشهدوا أنهم أقل منها، وهو يقرر لهم نظام تفكيرهم ويصنع مداليل هذا النظام التفكيري والشعوري وإن لم يتقبلوا ذلك فسيرحل عنهم كي يوقعهم بالندم ولوم الذات «ليحصلن لمن غادرتهم ندمُ/ والراحلون همُ). وكل من سواه زعنفةٌ فلا هم عربٌ ولا هم عجمُ.
ورغم ضعفه البيّن الذي تكشفه قصيدة «واحر قلباه»، واستجدائه البيّن في خطابه لكافور «أبا المسك» إلا أنه يعود ليعالج مَسكنته بسلاح النسق الفتاك «فليت دونك بيداً دونها بيدُ» أو أبياته القبيحة عن كافور «لا تشتري العبد.. إلخ» في تحول من مخاطبته بأبي المسك إلى رسمه في هيئة شخصية ممسوخة لا تستحق حتى أن تباع في سوق النخاسة.
والسؤال الحادُّ أمامنا هو: لماذا بعجبنا المتنبي؟ هل لأنه يعبر عن نسقيتنا وتعالينا على الآخرين واستعدادنا الذهني للانقلاب عليهم متى ما غضبنا منهم، أي أنه يمثل الشر الذي فينا ونظل نحاول تغطيته، ونترك المتنبي يعبر عنه نيابةً عنا بدليل تمثُّلاتنا لمثل هذه الأبيات، وطربنا لها وتجنبنا نقدها، أم أن شعرية المتنبي وجمالياته هي شفيعته عندنا لنغفر له زلاته ونداوي سيئاته بحسناته؟
لا شك أن المتنبي هو شاعرنا العظيم، وكذلك هو الكاشف النسقي في الذات البشرية، وهو الشجاع الذي لم يخجل من عيبه مراهناً على علو مقام شعره. ولا شك أن رهانه نجح ولم يزل، رغم أنف الناقد الثقافي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية جامعة الملك سعود - الرياض