فاطمة عطفة (أبوظبي)
تمتاز الجامعات والمعاهد الأكاديمية في فرنسا بتقاليدها الراسخة وإنجازاتها المشهودة في مجال الدراسات الاستشراقية، فضلاً عن إيلاء اللغة العربية والعلوم المختلفة التي ازدهرت في ظلال الحضارة العربية الإسلامية أهمية بالغة. وهذا ما نراه واضحاً في حياة الباحث الموسوعي البارون برنارد كارا دي فو (1867-1953) طيلة مسيرته الفكرية. وقد بدأ اهتمام هذا العالم بدراسة الإسلام والمسيحية في الشرق. فدرس اللغة العربية جيداً، ثم التفت بشغف إلى أعلام الحضارة العربية الإسلامية في القرن الخامس الهجري، فأحاط بحياة نخبة من العلماء كانت سيرهم المعرفية حافلة بالجد والتحصيل، وترجم بعض أعمالهم وألف كتباً عما تركوا من آثار في الفلسفة والطب والفقه والتصوف. ومن أهم العلماء والمفكرين الذين أمضى وقتاً طويلاً وبذل جهداً كبيراً في دراستهم وكتب عنهم: الطبيب والفيلسوف ابن سينا، والجغرافي والمؤرخ المسعودي، والفيلسوف الموسوعي الغزالي، إضافة إلى غيرهم من علماء الرياضيات والفلك وغير ذلك من المعارف والفنون التي ازدهرت في عصور الحضارة العربية الإسلامية الزاهرة. واهتمام كارا دي فو الكبير بالتراث الفكري عند العرب والمسلمين يظهر أيضاً جلياً في كتابه الموسوعي «مفكرو الإسلام» المؤلف من عدة مجلدات، وترجمه إلى العربية عادل زعيتر، وهو يعد من أهم ما ترك هذا العالم الفرنسي من آثار علمية. وكانت علوم الجبر والهندسة والرحلات الجغرافية عند العرب أول ما لفت نظر هذا العالم الموسوعي، وقد أبرز أن الصفر في الأرقام العربية المستلهمة من الدائرة يعد من أهم إبداعات الحضارة العربية الإسلامية. ويضاف إلى ذلك علم الفلك الذي ترجمه العرب عن الإغريق، وأضافوا إليه العديد من اكتشافاتهم وملاحظاتهم ومعلوماتهم التي تجاوزت علوم الأمم السابقة، والدليل على ذلك المرصد الفلكي الذي ما تزال آثاره باقية منذ العصر العباسي وحتى اليوم في ضواحي مدينة سمرقند. وكان البارون كارا دي فو مولعاً بشكل خاص بدراسة العلوم عند العرب، وكتب وترجم وتحدث عنها لطلابه في محاضراته خلال عمله في المعهد الكاثوليكي في باريس.
وفي كتاب كارا دي فو عن «حياة ابن سينا»، نطالع معلومات واسعة عن سيرة «الشيخ الرئيس»، استخلصها من مؤلفات ابن سينا نفسه، فيتحدث عن نشأته في بلخ وانتقاله إلى بخارى واهتمامه المبكر بالقراءة قائلاً إنه قرأ القرآن الكريم وحصّل الكثير من معارف الأدب وهو ابن عشر سنين فحسب، ثم بدأ بدراسة الفلسفة والرياضيات في كتاب إقليدس، وموسوعة المجسطي في الفلك لبطليموس، وهو مترجم عن الإغريق، ثم رغب في دراسة علم الطب مبيناً أنه قرأ الكتب المصنفة فيه، وتعهد المرضى فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، ولم يكن عمره في ذلك الوقت قد تجاوز ست عشرة سنة. وكلما كان يتحيَّر في مسألة ويلتبس عليه فهمها، كان يتردد إلى الجامع ويصلّي ويبتهل حتى تتضح له، ويرجع إلى بيته ويشتغل بالقراءة والكتابة من جديد. ولم يزل ابن سينا كذلك حتى أحكم معرفة علم المنطق والعلم الطبيعي والرياضي. ثم انتقل إلى علوم حكمة الأوائل، وقرأ كتاب ما بعد الطبيعة، فوجده صعباً ولم يفهم ما فيه حتى أعاد قراءته أربعين مرة «وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه»، كما يقول. ويضيف أن ابن سينا اقتنى كتاباً للفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة، فقرأه وفهم ما كان ملتبساً عليه. أما كتاب كارا دي فو عن الغزالي، فيشير مترجمه الأديب عادل زعيتر إلى أن هذا العمل كان ثمرة حفاوة هذا المستشرق الكبير «بمفكر من مفكري الإسلام، ولاتصاله الوثيق بعلم الكلام والتصوف والأخلاقيات التي فلسفها الإمام الغزالي على طريقته الرائعة، ولم يجعلها مجرد وعظ ونصائح على سبيل الأمر والنهي». ولكن الأديب زعيتر يأخذ أيضاً على بعض المستشرقين، ومنهم كارا دي فو، أنهم يصفون أبا حامد الغزالي بأنه مجرد ناقل عن مأثور ديني سابق «كأن كثيراً على فيلسوف مفكر أن يكون أصيلاً في أفكاره، مبدعاً في آرائه».