مع ظاهرة الفضائيات التلفزيونية برزت ظاهرة «الفصحى المحكية» حيث كثرت الحوارات المباشرة واللقاءات التي تجري على الهواء وكلها تتم مشافهةً وارتجالاً، ويتضح فيها اعتماد لغة المخاطبة والتعبير السريع بشرطي الوضوح والمعلوماتية مع المباشرة، وهذه تأتي عبر وعي من المتحدثين بأنهم يخاطبون جماهيرَ غير محلية ولا تفيد هنا العامية المحلية ولابد من لغة مفهومة من كل شعوب العرب في كافة أقطارهم حسب اتساع فضاء القناة المعينة وكونها قناةً شاملةً لكل العرب في أوطانهم وفي مهاجرهم، وهي حال يعيها المتحدث سلفاً ولذا يندفع تلقائياً لتوجيه حديثه باتجاه الفصحى ويحرص على (تفصيح) خطابه لأن الفصحى هي اللغة المتفق على كونها مفهومةً من الكل على نقيض العاميات التي تخص فئاتها المحددة جغرافياً وثقافياً. وهنا يحضر مصطلح «الفصحى المحكية»، وأهم خصائصها المشهودة هي التساهل بشروط الإعراب مقابل الالتزام بشروط التوصيل وشرط الإفهام وإجادة اختيار الألفاظ غير الملتبسة، وهذا يولد لغة ليست عاميةً خالصةً وليست فصحى كاملة الإعراب، وإنما هي لغةٌ تواصلية سلسة وتلقائية وتتوفر فيها مقتضيات الحالة الإعلامية، ومن أهمها لغة الاقتصاد حيث يجري تبسيط المعاني والمفاهيم الاقتصادية كي تكون المادة إخباريةً وتحليلية في آن واحد.
 وقد مهر عدد من المذيعات والمذيعين في تهذيب لغتهم تهذيباً يعرض المصطلح الاقتصادي بصيغة تفصح ولا تثقل، ومثلها لغة التحليل السياسي وشرح مجريات السياسة، وكذلك التحليل الرياضي ومثله التعليق الرياضي الذي يتم مباشرة مع مجريات أي مباراة حيث تجري اللغة مع جريان أرجل اللاعبين وركلاتهم للكرة في أحداث فورية ومباشرة وحيوية. تماماً مثل تغطيات التلفزيونات للحوادث السياسية والحروب وجبهات القتال حيث تأتي اللغة بمثل حرارة الموقف، ولن يكون النحو وإعراب الكلمات ميسوراً هنا بمقدار ما تتطلب اللحظة من سرعة ومهارة في التوصيل، مما يجعل مهارة التوصيل أهم من مهارات النحو، ولذلك سوابق ثقافية مع الشعر حين يتعارض شرط الوزن مع شرط الإعراب فيميل العرب لشرط الوزن كما ذكر ابن جني.
وفي حالنا مع الفصحى المحكية نشهد لغةً عربية تتوحّد فيها الأسماع مع الأقوال ويتولد عنها خطاب مشترك يتشابه فيه الإعلاميون والساسة والخبراء. وفي الوقت ذاته يتنافس هؤلاء في كسب القبول العام لكي تزداد فرص استضافاتهم وفي هذا كسب مادي ومعنوي، ومن ثم تتضافر ظروفٌ تتعاون على خلق لغة عربية عصرية، هي لغة تستحق منا تخصيصها بمصطلح يخصها هو مصطلح «الفصحى المحكية»، وهذا مكسب ثقافي ضخم تحقق للغتنا العربية من دون تخطيط مسبق ومن دون مجامع ولا معاجم ولا مدارس، ولكنه انبثاق تلقائي وفي الوقت ذاته اضطراري وحتمي، فهو حتمي تحتمه شروط التوصيل العام الذي تحتاجه الفضائيات، وهو تلقائي لأن الذين اقترفوا هذه الحالة لم يخططوا لحال خطابهم حين الظهور على الشاشة سوى أنهم يعون ابتداءً أنهم لا يتحدثون لجمهور محلي ولهذا يتجنبون المحلية (العاميات)، وفي الوقت ذاته فهم يعون أن ليس لديهم فسحةٌ لإتقان نحويات التعبير لأن السرعة وملاحقة المذيعين والمذيعات للمشارك حادةٌ وسريعةٌ مما يستوجب إجابات سريعة. ومن هنا انبثقت اللغة حسب قدرات المتحدث أو المتحدثة، وحسب تلقائية حديثهم، وظفر بها التلقائيون بينما فاتت على الخطباء الذين ظلوا على شرط المنابر حيث اللغة المتقنة والمضبطة، وهنا تتنوع خطاباتنا بين لغة فصحى ولغة عامية، وأخرى ابتكرتها لنا ظروف ثقافية إعلامية هي «الفصحى المحكية»، وكما قال شوقي عن زمنه:
لكل زمان مضى آيةٌ/ وآية هذا الزمان الصحف
على أن شوقي وصف زمنه، أما زمننا فآيته الفضائيات وعلامتها الثقافية هي الفصحى المحكية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض