يقول المتنبي:
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني/ وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
بيت خطير يكشف حال المتنبي نفسه بين حال الحكيم الشجاع، أو الشجاع غير الحكيم، أي حال المتنبي بين اللابس للحكمة أو المتنبي المتلبس بالنسق، وقد ظل المتنبي حكيماً وحكمته تنتشر على الألسنة وتعمر ذاكرة الثقافة، وهو حكيم ولا شك بمثل ما هو شاعر عظيم كذلك، ولكنه يظل نسقياً تتحكم فيه قوى غير حكيمة وقد مات ميتةً غير حكيمة وإن كانت شجاعةً، وذلك أن حكمته غابت لحظة مواجهته للموت فلم تحصنه الشجاعة، ولنستعرض حال هذا البيت وحال مصير المتنبي صاحب المقولة.
على أن الشجاعة قد تكون فضيلةً وقد تكون رذيلةً، وحسب مقولة سقراط بكون الفضيلة وسطاً بين رذيلتين فإن الشجاعة لكي تكون فضيلةً لا بد أن تقع في موقع الوسط بين الجبن أو التهور، والشجاعة قد تقع في نوع من الجبن أو نوع من التهور، وفي حال الجبن أو حال التهور ستكون حماقةً وهي ما قصد المتنبي بقوله (يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ/ وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ)! فالجبن المتلبس بصفة التعقل هو من خديعة الطبع اللئيم، وهذا هو الوجه المقلوب للشجاعة، وكذلك سيكون التهور الذي هو حماقةٌ واضحةٌ، وينتج عنه سلوكيات حمقاء في فعلها وفي ردود الفعل عليها، ولو أصيبت الشجاعة في علة التهور فهي تعادل الحماقة لأنها تتحكم بصاحبها وتكون قوةً متسلطة عليه. أما الشجاعة مع الرأي والحكمة فستصبح قوةً ناعمةً ومنها الشجاعة المعنوية والعقلية وشجاعة الرأي والتدبير، وهنا تكون فضيلةً، ولهذا قارن المتنبي بين موت رخيص وموت ثمين (فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ/ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ). فالموت رخيص أو ثمين في قيمته ولكن طعمه سيظل واحداً في الحالين. وقد أعلى المتنبي من شأن الرأي في قوله (الرأي قبل شجاعة الشجعان / هو أول وهي المحل الثاني).
ومثل مقام الرأي يأتي مقام الحكمة وهما معاً مقدمان على الشجاعة ومشروطان لها لكي تكون الشجاعةُ فضيلةً وتترفع عن صفتي الحماقة والرذيلة، وقد اشترط المتنبي الحكمة للشجاعة ولم يشترط الشجاعة للحكمة مما يعني أن الحكمة غنيةٌ بذاتها وليست مشروطةً بغيرها، بينما الشجاعة مشروطةٌ بالرأي والحكمة أو لنقل مشروطة بالرأي الحكيم، والرأي الحكيم قانونٌ فكري وهو أيضاً قانونٌ سياسي واقتصادي واجتماعي، وقانونٌ في نظام العلاقات العامة. وستكون الشجاعة بمعونة الرأي الحكيم قيمةً صانعةً للترقي البشري من حال ردود الفعل إلى أحوال الفعل، وتجاور القول مع الفعل تحت مفهوم الرأي الحكيم، وهذه وصفةٌ من صيدلية المتنبي التي هي صيدلية تحتوي على السموم حيناً وعلى الحكمة حيناً آخر. ومن خصائص المتنبي أنه كلما كان ذاتياً تحول إلى نسقي، وكلما تحرر من ذاتيته أصبح فيلسوفاً، وظل هكذا في كل تقلباته ولو أخلص مع حالته الحكيمة لربما أصبح الفيلسوف الشاعر، ولكن الشعرنة تطغى عليه وتجعله يتقلب بين الحكمة والنسق، وإن أبدع في الحالين، لكن الذي حدث أنه راح ضحيةً للنسقية فمات ميتةً رخيصة ولم يظفر بالميتة التي تمناها لنفسه ولصديقه الأثير سيف الدولة، وكانت نهايته غيلةً على يد لص تربص به واستعان عليه به. فقد أجبره على الانصياع لذاتيته المفرطة وحين همَّ المتنبي بالفرار من معركة صغيرة لا تليق به عاد للمعركة لأن اللص فاتك الأسدي استفزّ حسه النسقي إذ عيره ببيته الشهير (الخيل والليل والبيداء تعرفني.. إلخ) مما جعله يرتد لميدان المبارزة ويتلقى طعنةً أنهت حياته، وهنا تبعثر بيته عن الشجاعة في الحكيم إذ فقد حكمته وتفردت به شجاعةٌ من دون حكمةٍ تحصنها، فمات بغلطته القاتلة. هذا هو المتنبي لابس الحكمة والمتلبس بالنسق.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض