الفاهم محمد
يعد رولان بارث أحد النقاد القلائل الذين حولوا النقد الأدبي إلى ممارسة إبداعية للكتابة. بل إن هذه الأخيرة أصبحت معه وسيلة لتفكيك ومراجعة المفاهيم الكلاسيكية، التي انبنت عليها الحداثة، مثل مفهوم الحقيقة والذات، والدلالة والمعنى وغيرها من المفاهيم. وهكذا تجاوز رولان بارث النقد كمجال تخصصي، نحو فلسفة الأدب والسيميولوجيا. أعماله ونمط كتابته متشعبة ومتداخلة بطريقة مذهلة. فهو الرجل الذي بإمكانه أن ينطلق من الكتابة عن فن التصوير الفوتوغرافي، كي يكتب عن سيرته الذاتية. وبإمكانه أن يتناول وصلات إشهارية، كي يحولها إلى نصوص إبداعية يصعب تصنيفها. كما بإمكانه أن يقدم نقداً، مع تأكيده أن هذا النقد ليس حقيقة بل هو قراءة جمالية للنص.
هذه الطريقة المذهلة في الكتابة، والجاذبية الفريدة التي تتضمنها. أثرت على تصنيفه، وجعلت من الصعب نمذجة أعماله. فالبعض يرى أنه بنيوي يسعى إلى وضع علم للأدب. بينما يرى آخرون أنه يهتم أكثر بالمتعية واللذة، وحرية القراءة والتأويل، التي يخلقها القارئ.
ولد رولان بارث 1915 وتوفي سنة 1980 إثر حادثة سير، حيث صدمته سيارة لغسيل الملابس، حينما كان متوجهاً للكوليج دو فرانس. رأى البعض في موته بهذه الطريقة، فاجعة لا تخلو من دلالة سيميوطيقية. أما الكاتب لوران بينيه، فقد جعلها ذريعة لكتابة رواية صدرت سنة 2015 تحت عنوان:«الوظيفة السابعة للغة». يتخيل فيها أن موت رولان بارث، كان مدبراً من بعض المثقفين الفرنسين مثل جوليا كريستيفا وزوجها فيليب سولرز، بغرض الاستيلاء عل مخطوط ثمين لديه.
بنيوية رولان بارث
هل كان رولان بارث بنيوياً يسعى إلى وضع علم للأدب؟ نعلم جميعاً أن الرجل، عمل جاهدا على تأسيس أسلوب جديد في النقد يختلف عن التقاليد التي كانت سائدة في الأوساط الثقافية الفرنسية. سواء تلك المناهج الانطباعية الأخلاقية، أو تلك التي تسقط على النصوص مناهج خارجية. كالتحليل النفسي أو البنيوية أو الواقعية أو غيرها. وهكذا في تحليله لقصة إدغار ألان بو، أو بالزاك، يتجاوز بارث الرؤية الوضعية، التي يمكن أن تنطوي عليها المقاربة العلموية للبنيوية. حيث يرفض الانحصار في المعنى الثابت، والانغلاق في الادعاء البنيوي بكفاية النص لذاته. جل أعماله ماهي إلا محاولة لتجاوز الاغراء الذي يمكن أن تمارسه البنيوية، نحو الميل لتفضيل جاذبية المتعة في القراءة والتأويل. لكل الاعتبارات السابقة رأى البعض أنه يجب بالأحرى إدراج رولان بارث ضمن اتجاه ما بعد البنيوية.
كما هو معروف طالب رولان بارث بموت المؤلف، ولكن هذه المطالبة لا يجب فهمها على أنها انتصار للموقف البنيوي، الذي يصر عل البقاء في النص تحديداً والاكتفاء به. فمن خلال تناول قصة بالزاك المعنونة «سارازين»، يؤكد رولان بارث أنه من الصعوبة تحديد من يتكلم فعلاً داخل النص. فالكتابة تعمل على إذابة الذوات، ومحو الهويات، إنها بتعبيره «هدم لكل صوت». ففعل الكتابة ما هو إلا إبحار لتجاوز الذات، التي يمكن أن تتوهم نفسها، أنها هي المتحكمة والمهيمنة في فعل السرد. لذلك ليس المؤلف هو الضامن الرئيسي للمعنى داخل النص، بل إن فعل القراءة والتأويل، هو ما يجب أن يمنح الحياة للنصوص.
التناص والحقيقة
إن مطالبة رولان بارث بموت المؤلف، كانت سبباً في إحياء حرية القراءة، وفتحها على تعدد الدلالات. وهنا يقدم رولان بارث مفهوماً خاصا للنص، باعتباره مجالا مفتوحا، لتعدد واختلاف المعاني، وحقلاً يحبل بالتقاطعات والآثار، والتناص مع نصوص أخرى. مما يعني أن الحقيقة يجب بالضرورة أن تكون لانهائية. فعلى عكس البنيويين، الذين طالبوا بعزل النص عن سياقه التاريخي، والتركيز عليه كبنية مخصوصة. يدل التناص على العكس من ذلك على أن كل نص له امتدادات وتشابكات مع نصوص أخرى سابقة عليه. وبالتالي لا يمكن النظر إلى النص كما لو كان بنية لأزمنة تعلو على التاريخ. فالنص: «نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة».
في سياق آخر، لا يحيل التناص فقط على تعالقات النص مع نصوص أخرى. بل هو يدل كذلك على أن النقد الذي يتوهم أنه يمسك بحقيقة النص، ما هو في الواقع إلا مضاعفة له، وليس مجرد هيئة مؤسساتية تصدر الأحكام على المؤلفات. هذا النقد الجديد في الساحة الثقافية الفرنسية لم يرق لريمون بيكار، فرد عليه في كتاب تحت عنوان: «نقد جديد أم دجل جديد» مما حدا برولان بارث إلى الرد عليه بدوره في كتابه: «نقد وحقيقة»، مؤكداً أن النقد هو ممارسة كتابية إبداعية، ترمي إلى إحياء النص من جديد، وبعث الحياة فيه، والكشف عن الممكنات التي ربما لم يكن المؤلف على وعي تام بها. ذلك أن النصوص وفي الكثير من الأحيان تتجاوز مؤلفيها.
سلطة اللغة وهسيسها
لا ينظر بارث إلى اللغة كما لو أنها أداة بريئة، نستعملها دون أن تترك أثراً على ما نود التعبير عنه. بل بالعكس من ذلك تماماً، فهي أداة تمارس سلطتها بشكل خفي علينا دون أن ننتبه لذلك. إننا نعتقد أننا أسياد أفكارنا، المتحكمون في وعينا. ولكن في الحقيقة نحن نفكر كما نتكلم، أي أن أفكارنا ما هي إلا انعكاس للغة التي نتكلمها. فكل لغة تصنف العالم وترتبه بطريقة خاصة، وتسمح بقول أشياء معينة وتمنع أشياء أخرى. ما أن يتكلم المرء، حتى يجد نفسه محدداً وملزماً من قبل ما صرح به. فالكلام حينما يتجاوز الشفاه، يصبح من المستحيل استعادته. وبارث بتصوره هذا حول اللغة، لا يرمي إلى إبراز الطابع الإنجازي لأفعال الكلام، كما هو الأمر عند جون أوستين، بل إن الفكرة التي قدمها هنا أعمق بكثير.
إن الإنسان عندما يتكلم ويصطدم بالحاجز السلطوي للغة لا يستسلم، بل يحاول تجاوز هذا الإخفاق، وتكرار محاولة التعبير من جديد، وتحسين القول. وبما أن هذه العملية لا متناهية، ولا يمكننا أبداً أن ننفض يدنا منها، كي نقول هذا هو القول النهائي. فإن اللغة تستمر دائماً إلى الأمام، في محاولة متكررة للإمساك، بما يتعذر قوله، وهذا هو ما يسميه رولان بارث بهسهسة اللغة.
إن مثل هذا الصوت يدل على أن هذا الجهاز اللغوي يعمل، ولكن في الآن ذاته، بما أن الإفصاح التام غير ممكن، فإن الصوت الصادر عن اللغة يكون شبيها بثغثغة، كما لو أنه كلام متقطع، وصوت لا يتمكن من الاستبانة. يقول بارث: «إن الهسهسة لتشير إلى صوت محدد، صوت غير ممكن، صوت الشيء الذي لا صوت له، في حال تنفيذه كاملاً. وإن فعل هسهس، ليجعل تبخر الصوت نفسه مسموعاً: فالصوت الرقيق والمشوش، والمرتجف، يستقبل بوصفه إشارات لإلغاء صوتي». وهكذا تصبح اللغة موحية بالمعنى، ولكن دون أن تسميه، فيلوح كما لو أنه شبح أو همهمة، مثل حفيف الريح في أوراق الشجر.
من اللسانيات إلى السيميولوجيا تجاوز رولان بارث التقيد حصراً بالاشتغال على النصوص الأدبية، نحو مقاربة أنظمة دلالية غير لسانية، مثل الموضة والصورة والإشهار وغيرها. إذا كان جل البنيويين يطمحون إلى تأسيس «علم بالنص»، فإن بارث سيركز على أن الدلالة، التي قد توحي بها هذه الأنظمة الجديدة، التي لم يعتد النقد الكلاسيكي على مقاربتها. ورغم أن بارث كان حذراً في ادعاء تمثيل هذه الدراسات السيميولوجية، إلا أن مقارباته حازت شهرة كبيرة. فقد أبان عن حرفية كبيرة في قراءة وتفكيك الدوال والكشف عن معانيها المتضمنة. نذكر في هذا السياق عمله المبكر الموسوم بـ: «أسطوريات»، حيث قام بتحليل سيميولوجي بارع، للعديد من الظواهر الثقافية الشعبية، مثل السيارات وسباق الدراجات الفرنسي، والوصلات الإشهارية، وغيرها من المواضيع. إضافة إلى أعماله اللاحقة حول تحليل الصورة الفوتوغرافية، مثل كتابه «الغرفة المضيئة» حيث قام باستخراج الدلات المتضمنة، لمجموعة من الصور بطريقة سردية آسرة.
يؤكد رولان بارث أنه رغم كون السيميولوجيا قد انحدرت أصلاً من اللسانيات، إلا أن هذه الأخيرة لم تعد مجرد علم صوري؛ لأنها أصبحت تقارب مواضيع أخرى، ذات طابع اجتماعي وثقافي وتاريخي. ويضيف أن هذا التفكك الإيجابي الذي عرفته اللسانيات نحو ضفاف أخرى هو ما يدعوه بالسيميولوجيا.
لقد سعى رولان بارث إلى إخراج السيميولوجيا من البحت عن الماهيات، والتطابق، والقوانين الثابتة، من أجل تأسيس علم للدلالة، يتميز كما يصفه بكونه فاعل ومنفعل. بمعنى أنها تعيد غرس الدلائل داخل التاريخ، والواقع والثقافة، بدل اجتثاثها من جدورها وصورنتها. كل هذا دون التفريط في وجود حد أدنى من الصرامة المنهجية.
باختصار يعد رولان بارث، علامة فارقة في فلسفة الأدب ونظرية النص المعاصرة. عمل بكد من أجل تأسيس منظور جديد غير مألوف، لمقاربة النصوص سواء اللغوية أو العلاماتية. ستظل أعماله دائماً مثيرة للاهتمام والدهشة والافتتان.