محمد عبدالسميع
كيف يمكن تعزيز دور المكتبات لتظلّ تستقطب الزوّار، وكيف تواجه فورة النشر الإلكتروني ووصول الكتاب الرقمي إلى كلّ الناس، وهل ما تزال العلاقة الوطيدة بين القارئ والكتاب الورقي موجودةً، في صفحاته وغلافه ورائحة طباعته، قياساً إلى التحولات الكبرى والجوهرية الجديدة في عالم النشر؟! لعل هذا يحيلنا فعلاً إلى قراءة التحديات بواقعيّة لا تستبعد رمزية المكتبة ورونقها، ولا تنفي أيضاً أنّها مصدر علمي وأكاديمي موثوق، وكونها تشتمل على أمهات الكتب والمراجع والمصادر، ونحتاج فقط إلى قراءة استراتيجية للواقع وفهم لتفضيلات الناس ومشاغلهم واهتماماتهم، بما ينعكس على الوضع القرائي وما يتعلق به من معرفة وثقة ووعي، خاصةً لدى فئة الناشئة. وفي هذه الآراء، ما يؤكّد انعكاس مرحلة التحول الرقمي على موضوع المكتبات والنشر بوجهٍ عام، وأنّ مبادرات دولة الإمارات العربية المتحدة عملت في هذا الاتجاه، إضافةً إلى رؤى ومقترحات للنهوض بدور المكتبات من خلال تجاوزها الدور التقليدي وتحولها إلى جذب القراء وتحفيزهم أمام مشاغل الحياة ومغريات الكتاب الرقمي.
تراجع عام
يرى د. خالد بن محمد مبارك القاسمي أنّ التراجع في أعداد روّاد المكتبات ليس موجوداً فقط في الحالة الإماراتية، وإنما ينسحب أيضاً على كلّ الوطن العربيّ في مكتباته، ويردّ ذلك إلى أنّ الكتاب لم يَعُد هو الوسيلة الوحيدة التي يحصل منها القارئ أو الطالب على المعرفة، بل إن المعرفة توزّعت على أكثر من مصدر ووسيلة، وهذا بفضل ما يشهده عصرنا من شيوع للمعلومة على وسائل مقروءة أو مسموعة أو مرئية.
ولكن، هل هذه المصادر تغنينا عن القراءة وتجعلنا نعتمد فقط عليها، كمصادر سريعة تحمل المعلومة إلى القارئ والباحث عنها؟!.. هذا السؤال يجيب عنه د. خالد مؤكداً أنّ الكتاب الورقي، على رغم كلّ ذلك، سيظلّ مصدراً للعلم والمعرفة، مع عدم إنكار كونه تأثّر كثيراً بهذه الطفرة التكنولوجية، وبالتالي تأثرت المكتبات، فكانت هناك محاولة من بعض المكتبات للحاق بالطفرة التقنية في النشر، فذهب المكتبيون إلى الكتاب الإلكتروني، وأصبح هذا الكتاب ينتشر في المعارض وفي المكتبات أيضاً، بل إنه أصبح يُطلب كمصدر من مصادر المعلومة والمعرفة، ولذلك توسّعت العملية لتدخل في هذا الكتاب الإلكتروني أمّهات الكتب والطبعات الإلكترونية التي رافقت هذه المواكبة، وبالتالي أصبحت الحاضنة الرقمية والإلكترونية تحمل الدوريات العلمية والأدبية والتاريخية والاقتصادية، وأصبحنا نعتمد الكتاب الإلكتروني. ويعزو د. خالد ذلك إلى أن المهتمين والقراء والباحثين كانت التكلفة لديهم معياراً أيضاً في الذهاب إلى الحاضنة الرقمية من أجل الحصول على المعلومات المنشودة، فقلّ بذلك ذهابهم إلى المكتبات الورقية.
الكتاب الإلكتروني
وفي ندوات ومؤتمرات كثيرة عولجت هذه المشكلة حيث حاولت أن تقرأ المتاح والمتوقع ودخول عملية النشر في مرحلة صعبة، من حيث تراجع الكتاب الورقي وتنامي تحدي الكتاب الرقمي، وبالتالي فقد أصبحت بعض المكتبات تتخذ من الكتاب الإلكتروني وسيلة لتظلّ واقفة على أقدامها وثباتها في عمليه النشر، فهي تعترف بسرعة الكتاب الإلكتروني في الانتشار وإقبال الناس عليه، وأنه لا يحتاج إلى بعض العمليات التي نعرفها في استعارة الكتاب أو شرائه أو البحث فيه، إذ أصبح يأتيك ويمكن أن يُحمّل على الأجهزة المحمولة والأجهزة الكفيّة والحواسب المكتبية.
مواكبة العصر
وتقول الكاتبة لولوة المنصوري إنّ عملية المنافسة بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي أو الإلكتروني، أصبحت أمراً لا مفرّ منه، وعلينا أن نعترف بها، مؤكدةً أنّ المتن المقروء رقميّاً زاد على حساب المقروء ورقيّاً، وتعدد الكاتبة المنصوري ميزات هذه الطفرة، وسرعه استقاء المعلومة، ودخول الجميع في عصرٍ إن لم نواكب فيه أو إن ظللنا مكاننا نتحسّر على الماضي، فسنصبح منعزلين عن العالم. وتؤكد المنصوري أنّ التكنولوجيا أيضاً لها أساليبها ومزاياها، ولها حضورها وهي تشتغل على عنصر الطرح والمال، كما تقول، وبالتالي كان ذلك مدعاةً لظهور ما يُعرف بالكتاب الأكثر مبيعاً، فظهرت التكلفة العالية على المبيعات، ودخلنا السرعة التجاريه القائمة على مقاييس عالمية.
طقوس القراءة
وتتفاءل الكاتبة لولوة المنصوري بأنّ المكتبة، بكل جاذبيتها وجمالها، ما تزال مصدراً من مصادر المعلومة والمعرفة، وما يزال الناس يذهبون إليها ويشتاقون لطقوس الكتابة فيها والقراءة والبحث العلمي والأدبي والفني وغير ذلك من مجالات جاذبة ودافعة للقراءة والمطالعة، وترى أنّ هذه الطقوس لا يمكن أن يملأها الكتاب الإلكتروني، من حيث العلاقة الحميمة بين القارئ والكتاب، وميزة أن يتأمل الكاتب أو القارئ الكتاب في صفحاته، بما في ذلك من أثر نفسي جميل، وهو ما ينسحب على رائحة الورق وجماليّة الغلاف والطباعة.
وتضيف المنصوري إلى عناصر جاذبية الكتاب الورقي مزايا أخرى، منها أيضاً ارتياح العين ووجود الفراغات والهوامش، وهندسة الكتاب، فما يزال هناك من يبحث عن الكتاب الورقي ويتصفحه، وربما يصل إلى مفاوضة البائع أو المكتبي حول سعر الكتاب، ذاكرةً موضوع التكلفة كعامل مهم من عوامل شراء الكتاب الورقي، وكذلك موضوع المنافسة الرقمية للكتاب الورقي بطبيعة الحال، وكلاهما يشجّع على القراءة، وربما تتوازن العملية في هذا الموضوع.
المنصات المتاحة
ومن جهتها تقول الكاتبة د. عائشة الغيص إنّ الشباب العربي شديد التعلق بالكتاب الرقمي، حينما يطلب كتاباً أو معلومةً، حيث يلجأ إلى الوسائل الرقمية المتاحة التي تتيحها الموبايلات والحواسيب ومنصات التواصل الاجتماعي، وعالم الإنترنت، كطفرة جعلت المعلومة متوفرة على الهاتف أو على اللابتوب أو على الوسائل الإلكترونية الأخرى.
كما تشير د. الغيص إلى عدم توفر كتب متخصصة أحياناً في المكتبات العامة، ولجوء الطلاب إلى البحث عن طريق محرك البحث «جوجل» مثلاً، كما تطرح مشكلة تتمثل بالدعاية والإعلان من قبل وسائل الإعلام بأهمية الكتاب والترويج له وتذكير الناس به وحثهم على العوده إليه، وترى أنّ هذه البرامج قليلة، وبالتالي أصبح يشاع أنّ القراءة ترفيهية، وتظلّ محصورة عادةً في المهرجانات والمناسبات العالمية، كشهر القراءة، حيث ينتبه الناس إلى ذلك، وسرعان ما تعود الأمور إلى ما كانت عليه.
وتنوّه د. الغيص إلى مسألة مهمّة، في أنّ الطفل لم يعد ينشأ واعياً بأهمية الكتاب والقراءة، وأنّها عمل حضاري وغذاء فكري، فكان العزوف الحقيقي لبعض الشباب عن القراءة، إضافةً إلى مشاغل الحياة العديدة، وانتشار وسائل وهوايات منافسة للقراءة كالتلفزيون والألعاب، وهي وسائل ترفيهية ربما لا تكون مصدراً للمعرفة، وذلك يمكن حلّه عن طريق التعاون وتكاتف جهود الناس وتبنّي المبادرات الثقافية والمسابقات التي تجعل الشباب يذهبون إلى المكتبة ويطّلعون ويقرؤون.
برامج المكتبات
ومن جانبها تذكر الكاتبة شيماء المرزوقي أنّ من أسباب عزوف الشباب تحديداً عن الكتاب وعدم ارتياد المكتبات والدخول إليها وممارسة طقوسها، أسباب كثيرة، متعلقة أحياناً بالمكتبة نفسها، وهل ما تزال نمطيةً في أسلوبها أو منغلقةً تعيش في عالم آخر، أم أنها مواكبة للعصر وتصل إلى أفكار الشباب وتقرأ تفضيلاتهم وأبعاد مزاجهم الثقافي والمجتمعي؟!.. وهل تستطيع فعلاً أن تنفذ إلى آفاق جديدة في العمل المكتبي الذي يستقطب ويأتي بالمثقفين والزوار، وهل تنقصها المبادرات في الدخول إلى المجتمع وتحفيزه على اعتيادها وارتيادها عن طريق أنشطة ثقافية وبرامج تجعلها غير تقليدية جدّاً أو نمطية.
حلول عملية
وتقول المرزوقي إنّ هناك العديد من الحلول في مواجهة التحدي الرقمي، منها الندوات والمبادرات والمؤتمرات التي تدخل المكتبات شريكةً فيها، فتصنع لنفسها مكاناً لدى القراء والمهتمين، ولا مانع أيضاً إذا اشتملت على أنشطة ترويحية وترفيهية، فلا تكون بعيدةً عن روح العصر والوفاء بالتزامات الأجيال وهمومهم المعرفية. وتدعو المرزوقي أمناء المكتبات وكوادرها إلى أن يدركوا حقيقة التكنولوجيا الحديثة وشبكه الإنترنت كمتغيرات إيجابية ومهمة في توفير المعلومة.
أمهات الكتب
تؤكد الكاتبة مريم مصبح الرميثي أنّ المكتبات، من حيث المبدأ، هي مصدر الكتب المهمة والمراجع وأمهات المصنّفات، وأنها وحدها تشتمل عادة بين أروقتها وأقسامها على الكتب والمعاجم والمراجع، ومع ذلك لا تنفي الرميثي قلقها من تراجع الإقبال على زيارة المكتبات.
وتذكر الرميثي من أسباب قلّة الإقبال على المكتبات زيادة ساعات العمل، وهو ما قد يؤثر سلباً على أفراد الجمهور الذين أخذت كثيرين منهم مشاغلُ الحياة وساعات الدوام وشغلتهم عن الذهاب إلى المكتبة للقراءة والتصفح والاستعارة، في وقت هم في بيوتهم وفي أعمالهم وفي أي مكان آخر يستطيعون أن يقرؤوا من خلال الشاشات الزرقاء أو التصفح الإلكتروني ما يريدون من دون أن يقطعوا مسافات إلى هذه المكتبات.
وترى الرميثي أنّ هناك من يبعث الكتاب أو المادة المعرفية بضغطة زر إلى أصدقائه، وبالتالي فقد تقلص دور المكتبات، كما ترى، ليكون فقط في توفير المواد المطبوعة، حتى إنّ الرحلات المدرسية والجامعية الأسبوعية يبدو أنها أصبحت هي أيضاً مسألة تبتعد أحياناً عن المكتبات لصالح مراكز التسوق ومدن الألعاب، ما يتوجّب معه نشر الجانب المعرفي واللغوي لدى أبنائنا بخطط استراتيجية فعّالة وقابلة للتطبيق والجذب.
الواقع الافتراضي
يرى الكاتب شاكر نوري أنّ عزوف بعض الشباب عن ارتياد المكتبة والقراءة أمرٌ طبيعي، كما أنّ انتقالهم إلى الواقع الافتراضي ربما جعلهم يعيشون في عزلة عن الكتاب الورقي والمكتبات، ولذلك كثرت المختصرات لدى رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت الهواتف والألواح الرقمية هي المفضلة لديهم.
ويضيف الكاتب نوري إلى ذلك أنّ على المكتبات أن تبادر أيضاً وتتدارك نفسها وتغيّر من أسلوبها، نحو تبني ذهنية منفتحة تؤمن بالجديد، فلا بأس من أن يكون فيها مقهى ومطعم وساحة لعب في مكان واحد، كترفيه وتسلية، حيث انتبهت بعض المكتبات إلى ذلك وعملت به، فشجعت الناس على الذهاب إليها.
الكتاب الصوتي
ينطلق الكاتب والروائي المصري خليل جيزاوي، وكيل وزارة الثقافة المصرية الأسبق، من أنّ أساتذته كانوا ينصحونه دائماً بأنّ الجامعة لا تعطي المعرفة وحدها، بل تعطينا أيضاً مفتاحاً لهذه المعرفة، وعلى طالب العلم أن يذهب ويفتش ويكتشف في الكتب والمراجع والمصادر المعرفة الحقيقية. ويتفق الجيزاوي مع القول بانحسار دور المكتبات أمام الوسائل التكنولوجية الحديثة أو مصادر القراءة الحديثة، حيث أصبحت منصات القراءة الإلكترونية مُِلكاً لكلّ إنسان، فباتت الهواتف الذكية تحتضن الكتاب الإلكتروني، كما أننا نستطيع أيضاً ونحن في بيوتنا وفي أي مكان آخر أن نقرأ على هواتفنا ما نريده من كتب.
وأكد الجيزاوي أنّ مركز أبوظبي للغة العربية في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، وضمن مبادرة «أثير الكتب» التي تضع الروايات العربية والعالمية المترجمة وكتب التراث النثرية متاحة رقيمّاً، باشتراك بسيط، يتيح مئات الروايات العربية والعالمية للقراءة، على مواقع معينة، فأصبح الكتاب الصوتي منتشراً أيضاً، حيث يصل الجمهور بوجود قارئ الصوت المحترف من الفنانين أو المسرحيين أو المختصين من الأدباء، وهو كتاب يريح القارئ ويوصل إليه المعلومة أو المعرفة بسهولة.