عبدالله أبوضيف (القاهرة)
«الفسيفسائي» رواية عالمها مدهش وأحداثها ممتعة بتشعباتها وسردها، يخطف بها الكاتب عيسى ناصري القارئ في رحلة تشمل روايات متداخلة، مذكرات، تقارير صحفية، أحلام وتأملات، في رحلة مثيرة عبر تاريخ الإنسانية لمدة ثمانية عشر قرناً، يتفرع السرد وتشعرك وكأنها متباعدة في صحراء الوقت، ولكنها تلتقي تدريجياً في نهر السرد العظيم.
يقدم ناصري عبر الرواية – المرشحة لجائزة البوكر العربية 2024– قطع فسيفساء متنوعة من الأماكن والأزمنة المختلفة، ثم يرتبها حتى تتداخل وتتوافق معا، مكونةً جسداً للرواية. ويقول الكاتب المغربي لـ«الاتحاد» إنه أثناء كتابة الفسيفسائيّ وضع في ذهنه بنية تتماشى مع فنّ الفسيفساء، وتقوم على التفكيك والتشظّي والتداخل والتشابك، وجمع ودمج ثلاث روايات داخل رواية رابعة جامعة.
وأضاف أن الرواية الأولى «الفتى الموري» كتبَها جواد الأطلسي، والثانية «ليالي وليلي» كتبتْها أريادنا نويل، والثالثة عبارة عن مذكّراتٍ بعنوان «باخوس في العيادة» كتبتْها نوالُ الهنّاوي، والدمج تَمَّ عبر تقطيع الروايات الثلاث. والنصوص تمّ رصف قِطعها على أرض مدينة وليلي الأثرية، باعتبارها الفضاء الرئيس الذي تتحرّك فيه أغلب الشخصيات، وإليه تتجه أغلب الأحداث، أمّا زمن القصة الذي حدثت فيه، فقد جمعتُ بين زمن قديم بعيد (القرن الثاني) وزمنٍ حديث قريب (تسعينيات القرن الماضي)، كانت الصعوبة كامنة في مدّ جسرٍ منطقيّ بينهما يمتدّ لمسافة زمنيّة تقارب ثمانية عشر قرنا، وكانت الفسيفساء الرومانية هي الجسر الذي ربحت به هذا الرهان.
وتخضع «الفسيفسائي» لتداخلات زمنيّة بصورة متكرّرة ومتواترة، انسجاماً مع البنية الفسيفسائية التي شكّلتُ وفقَها النّصّ، إذ عمدتُ إلى تحريفاتٍ زمنية تتراوح بين التسلسل والتضمين (إدخال قصّة في أخرى)، والتناوب بين الاسترجاع والاستباق والتّقطيع، ورغم هذه التحريفات والتداخلات التي قد توقع للوهلة الأولى في التشويش، فإن القارئ سرعان ما ينتظم لديه الزمن، فمع تقدّمه في القراءة لا يجد عسرا في ترتيب الأزمنة وفكّ تداخلاتها.
الفسيفسائي.. من هو؟
وعن شخصة الفسيفسائي يوضح الكاتب أن فنّ سرد الرواية ليس في جوهره سوى عمليّة تجميع غير واقعيّ لعناصر واقعية وهو ما يفعله الفنّ عموماً، حتى في أشكاله الأكثر إيغالاً في الفانتاستيك، فكتابة الرواية عنده لا تختلف عن عملية ترصيف مجموعة من المكعّبات الملوّنة على صحن بيتٍ رومانيِّ الطراز، ومن ثمّ فالكتابة صنعةٌ لا تختلف عن صنعة الفسيفساء القديمة.
وشخصية الفسيفسائي في الرواية «تُهامي الاسماعيلي» هو كاتبٌ سبق له أن احترَف صَنعة الفسيفساء المغربية المعروفة بـ«الزّليج البلدي»، هذا الكاتِب/ الفسيفسائي سيقوم بتجميع قِطعٍ روائيّة لتشكيل لوحة الرواية الجامعة، وهو بشكل ما يمثِّلني أنا كاتب الرواية.
نص مفخخ
ويرى ناصري أن الرواية المعقّدة تدفع القارئ إلى بذل مجهود أكبر للقبض على مسارب الحدث وتداعياته، وثمة نوع من القرّاء لا يستهويه إلا النصّ المفخّخ الذي يتحدّاه ويستفزّ ذكاءه، إذ كلّما توغّل القارئ في تلك المتاهيّة كلّما انكشفَتْ أمامه عوالم تولِّد المتعة وتصنع الدهشة، ما يرفع منسوبَ التشويق لديه إلى أقصى درجاتِه.
ويرى أنّ قارئ اليوم في ظلّ تعقيدات الحياة المعاصرة وتشعّب مفاصلها، صار يبحث عن الإلغاز والإدهاش فيما يقرأ، فهو لا يريد حكاياتٍ مباشرة سهلة وجاهِزة إنّما يريدُ معماراً روائيّاً مشَيّداً بأناةٍ على شكل متاهات تستنفر دهاءه وذكاءه وتستفرغ جهده التأويليّ.