نوف الموسى (دبي)
تبرز قيمة المعارض الفنية ذات الدلالات الثقافية؛ مثلما هو معرض «الوجود اللطيف» للفنان الياباني تسويوشي هيساكادو، الذي يُقام في مركز جميل للفنون بدبي، في أنها تستوحي من البيئة المحلية في دولة الإمارات، مساحات اجتماعية مشتركة، باعتبارها منصات حوارية عالمية مفتوحة على مختلف الأفكار والذهنيات التي من شأنها أن تنتج أشكالاً إبداعية تتناول القضايا الراهنة، بحس إنساني قادر على التفهم وإدراك التجارب الإنسانية، أمام نمطية الصور المباشرة والمعتقدات الثابتة والسائدة حول مجتمع معين.
ما قدمه الفنان الياباني تسويوشي هيساكادو، من خلال عمله «قطرة ماء»، أحد الأعمال المشاركة في معرض «الوجود اللّطيف» أحدث تمازجاً حسياً، عبر مجموعة من الأصوات اليومية التي سجلها في دولة الإمارات واليابان، مثل أصوات حركة المترو وتساقط المطر وأجهزة التكييف، ويجمعها بأضواء كاشفة ساطعة في غرفة بيضاء مظللة، لتتناغم في تجربة حسية غنية تذكرنا بالمشهد الصوتي للحياة اليومية الذي غالباً ما نتجاهله في خضم مشاغل حياتنا اليومية. ورغم وضوح فكرة العمل وأبعاده في التجسيد المرئي والمسموع، إلا أن مخرجاته الآنية والكيفية التي يستقبل بها المتلقي تلك التداخلات للبيئة المحلية في الإمارات واليابان، تبقى منطقة لافتة، وباعثة لسؤال فيما إذا كانت لكل ثقافة محلية طريقتها في تلقي صوت المدينة، وأين سيكمن التشابه العابر في طبيعة التفاعلات اليومية بين مختلف البيئات المحلية العالمية، وهل التمازج يُقرب المسافة البينية فيما بين التجارب الحسية؟!

الضوء الخافت
وتكمن أهمية معرض «الوجود اللّطيف»؛ في أنه دعوة فنية للبحث في الفن الياباني المعاصر، وإعادة التفكير في المحاور التاريخية والاجتماعية، وتأثيرها على طبيعة الهويات التي شكلتها التبادلات الثقافية في المجتمع الياباني، وعدم التوقف فقط عند الصورة النمطية المعتادة للتجربة اليابانية عموماً، بل الغوص في رسالة هذا الفن الرئيسية، وإدراك أساليبه المبتكرة ومنهجياته الفنية للتعبير عن إشكالياته المجتمعية، فالتأكيد على التجربة الحسية طوال المعرض الفني إنما هو لغة متباينة بين رغبة الحوار وقوة المشاركة، ففي العمل الفني «قوة» حيث استخدم الفنان تسويوشي هيساكادو، المصابيح الكهربائية والأوراق، والأسلاك الكهربائية، والزجاج، وهي مواد نألفها في حياتنا اليومية، وخصوصاً في أماكن العمل والدراسة، لخلق شعور من عدم الاتساق، إذ تواجهنا أذرع معدنية ممتدة من الأرض حتى السقف وهي ترمي بين الفينة والأخرى قصاصات ورقية، تصحبها ضوضاء منخفضة التردد، وعلى الجانب الآخر من القاعة نجد أيضاً طاولة زجاجية مائلة تتقاطع معها مجموعة من المصابيح ذات الضوء الخافت والمتقطع  في محاولة من الفنان لتجسيد القلق المستمر من انهيار عالمنا المعاصر وهشاشته، وإن كان ظاهره مستقراً وثابتاً. 
لماذا الإصرار على خلق حالة من «الانتباه» لمحيطنا اليومي؛ في جّل أعمال الفنان تسويوشي هيساكادو؟! لعل هذا يعيدنا إلى بعض أهم الفنانين اليابانيين الذين قدموا أعمالاً تركيبية معاصرة في ذات السياق، ومنهم الفنانة اليابانية يوكو موهري «Yuko Mohri»، التي تركز في أعمالها على مفهوم «الظواهر» التي قد تتغير باستمرار في البيئة المحيطة وفقاً لظروف مختلفة، وبذلك فهم يصنعون آلية تأملية، في المساحات الإبداعية، تتبنى الحركة ومنهجية دوائر الطاقة، ضمن ظروف غير ملموسة، فنحن نتحدث هنا عن الضوء، والصوت، والرياح، والجاذبية، والزمن، وعلاقتها بالفضاء العام، وكيف ينتجون تراكيب غير متوقعة لتلك اللقاءات الظرفية، وفق الأعمال التركيبية المعدة للتجربة، لأنهم بذلك يضعون ملامح عامة يستوعبها المتلقي حول القوى غير القابلة للسيطرة عليها، وأيضاً تأثيرها على السلوك والمجرى الإنساني، ما يمدنا بإدراك واسع أن مخرجات الحياة اليومية لا يمكن التنبؤ بها فعلياً، و«الانتباه» هنا وسيلة ضمنية لقياس مستوى نضج اتصالنا مع ما يشكل حرفياً وعينا بالعالم من حولنا في كل لحظة. 

الوجود اللّطيف
وفي محاولة لاستكشاف القوى الطبيعية غير المرئية، التي قد تنتظم حياتنا وتعاملاتنا اليومية، تعامل الفنان تسويوشي هيساكادو، مع ثلاثة أعمال حضرت في معرض «الوجود اللّطيف»، هي: «نهر» و«ضباب» و«هزة أرضية»، مثلت أعمالاً تركيبية على الورق، واعتمدت فكرتها على مسألة التسلسل المنطقي والنسب الثابتة، فبمجرد أن يقترب الإنسان من العمل، يجد أرقاماً صغيرة متداخلة، يختلف إيقاعها بشكل ما -إن صح التعبير- وفقاً للحركة داخل العمل التركيبي، ففي «هزة أرضية»، نجد مقطعاً أفقياً يخترق العمل عرضياً، إشارة لحدوث زلزال. 
أما في «ضباب»، فنرى بقعاً من الحبر الأسود في طيف من الظلال. وفي «نهر» يلاحظ المشاهد ما يشبه الدموع وهي تتخذ شكلاً متصلاً على الورق، وهنا الاضطراب الذي يحدث للمنظومة الطبيعية، إنما هو آلية تعبير جمالية لإدراك متغيرات الأرقام والنسب الكونية في تجسيد أشكال الحياة على الأرض، والتي تبقى مهما بدت قابلة للقياس، صعبة التكهن والرصد والتوقع.