بقلم: كاترين جارّي
ترجمة: أحمد حميدة

نقرأ كريستيان بوبان، فإذا بنا نتلقّف فيضاً من لطافة رخوة نديّة، سرعان ما تنسرب طراوتها في أعماقنا، لتغمر كلّ ذرّة نابضة في كياننا. لذا، فإنّ كتب بوبان لا تحتمل القراءة العجولة.. المتسرّعة، بل تحتاج إلى أن نقبل عليها بتروٍّ وعلى مهل، لأنّ بعض مفرداتها قد تكفي كيما تجعلنا نعيش بامتلاء كلّ لحظة نفورة.. عابرة. فما من جملة نقرأها في دواوينه، إلاّ وتولّد لدينا الإحساس بأنّها جديرة بأن تُعلّم وتُردّدَ وتنحفر في ذاكرتنا، لأنّها تفصح عن تلك الكنوز الخبيئة المنطمرة في سرّنا، والتي بالكاد يتردّد رنين كلماتها همساً.. في آذاننا. إنّه يرتجل عالماً لم تنطمس معالمه بعد، عالم يتّحد فيه التصوّف بفنّ الحياة، إذ هو يلامس في نفحاته الشّعريّة الزّمن السّرمد، وغنائيّة نظمه تنهل من الـ«هناك»، تبدو كلماته المرسلة من فرط رخاوتها، أشبه بقصائد للأطفال نظمت من النّجوم، كلمات يطرّزها بوبان تطريزاً بديعاً، فيحيلها إلى.. دفق من ماء منعش سلسال. ومردّ ذلك إلى الجمال الهادئ، الرّصين، الوقور، المنبعث منها، والذي ليس بوسع أيّ كان استعذابها أو استساغتها. وقد يحتاج المرء كيما يتذوّقها حقيقةً، إلى الحضور المحض للقلب، وإصاخة السّمع لنداء الرّوح السّاري في أوصالنا.
تشدّنا في كتابات هذا الشّاعر المتفرّد.. غرابة مباغتة، إذ تقحمنا كلّ دواوينه، ما بين القصيد السّرديّ والنّشيد، في عالم من علامات مثيرة، ينتظمها رابط إيمانيّ راسخ ووثيق. فهو يترصّد عبر كلمات مختزلة وموزونة، بل عبر مفردات مستقطرة، تلك اللّحظات العامرة باللّطافة التي تخترق حياتنا اليوميّة، التي تكون بالكاد قد لامستنا.. وسرعان ما ذهلنا عنها. ومع ذلك.. يجنّبنا بوبان التّقوى الزّائفة والتمثّلات السّاذجة، ويؤثر بدلاً عنها الوضعيّات الاعتيادية ذات الأبعاد التراجيديّة والشّخصيّات المرهفة والمتهيّجة. نقلّب صفحات دواوينه، فتتمدّد أمامنا رسالة إنسانيّة محكمة.. بالغة، ترافقها دوما كآبة متملّصة.. آبقة. إنّه ينحت أحاسيسه نحتاً، ثمّ يطلقها على شكل كتابة متشظّية، عامرة بنفس بسكاليّ أثيل، فيضع القارئ أمام حقيقة بؤسه وعظمته. وها هو يسرّ لنا بأنّ «الكتابة، على غرار العزلة والحبّ، وسيلة تمرّد على البؤس الإنسانيّ، وهي بهذا المعنى فضيلة طفوليّة متوهّجة!».
يكتب بوبان عن أشياء بسيطة لا تستوقف عامّة النّاس، ولكنّها تكشف عن مواضيع بديهيّة يكون الشّاعر قد شحنها بطاقة أسطوريّة، بل بطاقة روحيّة مونقة.. ساحرة. فلننصت إليه وهو يتحدّث عن ماهية الكتابة: «يسألني البعض عمّا أكون بصدد كتابته، فأجيب بأنّني أكتب عن الأزهار، وأنّني في يوم ما، قد أتخيّر موضوعاً أكثر بساطة، فأكتب عن قهوة سوداء أو عن تهويمات ورقة كرز متراقصة في الفضاء. إنّي لأتأمّل ارتعاشة أوراق الشّجر تحت أجنحة الزّمن الذي يمضي، فألمس وجودها المشعّ، وهي التي لا شيء يحفظها أو يحميها من تشنّجات الزّمن». 

صفاء مباغت ومبهر
حين يزيح هذا الشّاعر حجاب العاديّ، ينبعث من كلماته صفاء مباغت ومبهر. معه، ينبجس الفرح ممّا يتعذّر التنبّؤ به ومن الأشياء الأكثر ضآلة، وهو الذي يروم من خلال تلك الكلمات تخليصنا من سطوة المرئيّ، ويجهد من أجل هتك حجاب المايا ليسلمنا إلى حالات من التّأمّل العميق في اللاّمرئيّ. قد تبدو لنا كتابته مجرّدة وغامضة، ولكن حسبنا قراءة بعض الأسطر حتّى تسري بداخلنا حالة آسرة من الاغتباط والانتشاء. 
مع بوبان نكون دوماً موعودين بسفر في قلب الصّمت النّابض، في الأطياف السّاحرة للألوان، وفي ظلامات اليوميّ. ولم يتوقّف هذا الشّاعر منذ أكثر من أربعين سنة عن رسم طريق في الحياة بالكلمات، طريق نلتقي فيها ونحن نرافقه، أطفالاً باسمين، موتى أكثر حياة من الأحياء، أعشاباً متهيّجة، وأحياناً، ضياء يخترق أوراق الشّجر ليكشف عن الحضور الحيِيِّ لللاّمرئيّ. كحارس لمملكة لا مكان فيها للقوّة والتّقنية، يمضي بنا بوبان مستكشفاً، وبكلمات تامّات ومجرّدة، يأخذ بيدنا ويحفزنا إلى التّصالح مع النّفَس ِالرّوحيّ الكامن في سرّنا، والمتحرّر من كلّ أشكال الزّور والزّيف والافتراء. 

مقاطع من كتاب «الحضور المحض»
عندنا، لا تُنطق كلمة حبّ. إنّها لدينا كلمة مرتجفة، تخفق وتطير وتحلّق وتنبثّ في الأجواء، ولكن لا أحد ليصرّح بها.
ذلك أنّ الكلمة عندنا، ليست كما هي الكلمة عندكم، جزءاً من الوجود، أو جزيرة مقفرة في محيط الصّمت. فالكلمة عندنا هي أكثر من الوجود، أكثر من السّماء وأكثر من الشّمس. إنّها لأشبه بقطعة من آله منحشرة بين الأسنان، لا ننتزعها إلاّ بحذر شديد في المناسبات الهامّة.
حين يغشى الحزن أحدنا، فإنّه يذهب إلى صديق، أي إلى أوّل صديق يصادفه، لأنّ جميعنا هنا إخوة وأخوات. ويحمل معه كرسيّاً من القشّ، يجلس قرب أخيه أو أخته، ويمكث هناك دون التلفّظ بأيّة كلمة، ليوم أو لليلة، أو لفترة تستغرق دورة الشّمس، إلى أن يتبدّد حزنه ويستعيد سكينته. حينها.. ينهض، ويأخذ كرسيّه ويعود إلى أعماله.
لا بدّ من حدث عظيم، كيما تخرج كلمة حبّ من أفواهنا- ولا يؤشّر ذلك إلى أمر مطمئن.
لقد صرّح بعض العلماء أنّ الكلمة كلّما قلّ نطقها، ازدادت قدرتها على إسماع الآخرين، مؤكّدين بأنّه «ما لا يتراقص على حافّة الشّفاه، يمضي مزمجراً في أعماق الرّوح».
ربّما أنّ الأمر كذلك..
وقال بعض النسّاك أيضاً، إنّ الصّمت الذي ترقد فيه كلمة حبّ، يكون بداخلنا بمثابة بقيّة باقية من الفردوس، أثر دارس من ذلك الزّمن الذي كانت فيه الأشياء تشعّ متوهّجة.. لأنّها لم تُسمَّ بعد، ولأنّه لم يكن ثمّة من أثر لاسم يطمس بريق الأشياء.
ربّما أنّ الأمر كذلك..
وقد كتب أحد الشّعراء قائلاً: «من تحدّث عن حبّه، يكون قد تهيّأ لقتله».
ربّما، ربّما، ربّما. نحن نقبل تلك النّظريّات، ونقبل أيضاً بما يضادّها. فنحن أناس متسامحون مع الأفكار، ننضّدها في الكتب، وننضّد الكتب في المكتبات. نحن لا نقيم وزناً لغير ذلك الطّائر الرّشيق التي هي الحياة، ولا تزعجنا الأفكار أكثر ممّا تزعجنا الطّيور المحنّطة. ونترك لمن يرغبون في ذلك، أن يجعلوا من تلك الطّيور الفانية مجاميع للزّخرفة.
طبعاً! نحن كتبنا الكثير، وأمعنّا في نثر كلمة حبّ على الورق الأبيض النّاعم. طبعاً! ولكنّكم تعلمون أن الكتابة ليست التّصريح.
لقد حدث ذلك منذ زمن بعيد، زخّات من الكتب وطوفان حقيقيّ!
ثمّ توقّفنا عن ذلك، لأنّنا أدركنا، أنّنا لكتابة كلمة حبّ على النّحو الأبلغ، قد نحتاج إلى كلّ حبر العالم.