عبر تاريخ طويل امتلكت الشعوب ثروات هائلة على الصعيد الإبداعي الأدبي وسعت كلها باتجاه الحفاظ عليها من الاندثار، وتعمل بشكل جادّ ودؤوب من أجل تعميق صلتها مع جميع أفراد المجتمع، وبنظرة سريعة إلى المجتمعات العالمية نجد أنها جميعاً تحتفي بمبدعين خلّدوا ذكراهم عبر مجموعة واسعة من الأعمال التي شكّل «السرد» فيها منطلقاً وركيزة، مثل الرواية، والشعر، والقصة، والمسرح، وغيرها.
ونحن في منطقتنا العربية التي ترتاح على تاريخ طويل وعريق من الإبداعات السردية والتي شكّلت مفاصل أساسية في حضارة وازدهار الأمة، وقف أدب السرد شاهداً على الكثير من الأحداث، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وتنموية وغيرها، حيث ساهم نخبة من المبدعين في هذا المجال بتأريخ الكثير من الأحداث، نقلوها للقارئ بأساليب وقوالب أدبية مختلفة، فكان أن اطلع القرّاء على تاريخ غزير بالمعرفة والأحداث والمنعطفات التي كونت تفاصيل خاصة ساهمت في نهضة أمّة تستند في إرثها القيّم على اللغة والكتاب كمنطلقات لتحقيق الإنجازات والتطوّر.
ومن هذا المنطلق، وفي إطار جهود مركز أبوظبي للغة العربية في الاهتمام بكلّ مصادر الإبداع، ومقدرات المعرفة، والإرث الأدبي والفكري للشعوب، وبما يخدم استراتيجية دولة الإمارات، وإمارة أبوظبي في الاهتمام بمقدرات الثقافة والهوية الإماراتية وإبرازها للعالم بأسره باعتبارها هويّة متفرّدة ومنفتحة ترتكز على قيم أصيلة، وتراث ثقافيّ مهمّ، أطلقنا جائزة «سرد الذهب» التي تعكس دعمنا للفنون الشعبية لرواية القصص العربية في مختلف أنحاء العالم العربي، وتُظهر جهودنا في تقدير التقاليد العريقة المتعلّقة بسرد القصص باللغة العربية، وتعزيز الانتشار الذي حظيت به الحكايات الشعبية والأساطير التي شكّلت منطلقات إبداعية لفنّ السرد الذي يعدّ ركيزة أساسية لتراثنا وثقافتنا وفكرنا العربي.
إن جائزة سرد الذهب تحمل في طيّاتها قيمة معنوية أساسية تخصّ المجتمع الإماراتي، حيث ارتأينا أن تتشرّف بأن يكون عنوانها مستلهماً من أبيات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيّب الله ثراه، القائد الإنسان، والشاعر المفكّر الذي تقاطعت رؤيته التنموية في بناء الدولة وتشييدها على أسس من القوى الاقتصادية والسياسية والتنموية، مع نظرة حريصة على بناء الإنسان وصقل معارفه وخبراته وترسيخ قيم المعرفة والإبداع في داخله، حيث جاء شعار الجائزة من إحدى قصائده، طيّب الله ثراه، والتي يقول فيها:
كِنْت عارف ما به وْريتهْ.. دارسٍ سَرْدَه مع إعرابه
ويقول في قصيدة أخرى:
طرّزه وعَنّاه في الحالِ من ذهب ومزيّن حروفهْ
والناظر إلى عنوان الجائزة والعارف بجزالة وحنكة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، في نظمه لقصائده، سيرى بأن الجائزة جمعت عنوانها «سرد الذهب» من شطري البيتين، إذ جاءت كلمة «السرد» في البيت الأول ضمن سياق يشير إلى دلالتها المتعلقة بصحة واتساق وانضباط المعنى. ودلّت مفردة «الذهب» في البيت الآخر على الجمال وحسن المظهر والتوشية، ليصبح العنوان بليغاً في الدلالة على ما ينبغي أن تتحلى به فنون القص والحكي من انضباط في المضمون والشكل، وبما يسمح بالتواصل وانفتاح دلالات التلقي.
لقد أردنا من خلال «سرد الذهب» أن نعمّق علاقتنا كشركاء في الاهتمام ورعاية فنّ الحكاية الشعبية على صعيد الجمع والدراسة وإبراز البُعد الإبداعي في الأعمال، والدفع باتجاه التعريف بمكانتها وأهميتها ليتسنى للمهتمين أن ينهلوا من معينها المعرفي، ويستلهموا جمالياتها، ويعبّروا عنها في أعمال معاصرة، إلى جانب سعينا لاكتشاف وتكريم المواهب من المبدعين في حقل كتابة القصّة القصيرة ممن يمتلكون تجارب وإبداعات متميزة، والوقوف إلى جانبهم ومساندتهم في إنتاج ونشر إصداراتهم وتقديمها للقرّاء.
وتمضي الجائزة في الوقت ذاته نحو إثراء سردية دولة الإمارات، وما تملكه من إرث غنيّ في هذا المجال، لتُطلّ على مختلف جوانب الحياة الإماراتية، وتتناول في تعريفها تفاصيل مختلفة عن التاريخ والشخصيات والجغرافيا والموروث الشعبي وغيرها، عبر تحفيز المبدعين على مواصلة تقديم أعمال تعنى بإظهار الجوانب المتميّزة والجمالية في تاريخ الإبداع الأدبي المحلي.
وندرك الأهمية الكبيرة التي يملكها السرد، فهو الأداة الإبداعية التي تدفع صاحبها لتوثيق الكلمات، والأفكار، والحكايات، والمواقف، والمشاعر، وغيرها من المشاهد الإنسانية التي تلخّص المسيرة البشرية والمعرفية برمّتها، ولهذا نمضي من خلال هذه الجائزة في عملية توثيق كلّ تلك الإبداعات ودعمها والتعريف بأصحابها، لأننا ندرك أن السرد وسيلة التعبير الأسمى التي تروي بجزالتها، وأدواتها عراقة، وجماليات الماضي، والمستقبل.
رئيس مركز أبوظبي للغة العربية