فاطمة عطفة (أبوظبي)
أفرد الباحث المغربي الدكتور محمد الداهي فصلاً خاصاً في في كتابه «السارد وتوأم الروح» الحائز جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الفنون والدراسات النقدية 2022، تناول فيه «طبيعة العلاقة التي تجمع بين السيرة الذاتية والتاريخ باعتبارهما نصين مرجعيين يراهنان على استعادة حدث وقع في الماضي، وتصبح هذه العلاقة مثيرة عندما يكتب المؤرخ سيرته الذاتية لاسترجاع أخباره وأحوال غيره»، مبيناً أن «ما يكتبه ليس من صلب التاريخ وإنما هو جزء منه». 
ويشير الباحث إلى هذه العلاقة متحدثاً عن كتاب «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً»، قائلاً إن العنوان الأصلي للكتاب هو «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب»، لكن ابن خلدون اضطر إلى «تعديله حتى يستوعب ما جد من تجاربه الغزيرة، ويتضمن ما عاشه وعاينه في رحلاته من وقائع مثيرة، فحذف منه اسم الإشارة «هذا»، وأصبحت الصياغة الأخيرة للعنوان على النحو التالي: «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً». 

كتابة مغايرة
يتابع الدكتور محمد الداهي موضحاً أن «ابن خلدون قصد - من خلال صياغة العنوان - إبرام ميثاق مع القارئ المفترض، موحياً إليه بالانتقال من وضع المؤرخ إلى وضع كاتب السيرة الذاتية، ويتبنى كتابة مغايرة لا تتعلق أساساً بسرد الوقائع التاريخية، وإنما باسترجاع الماضي الشخصي». ويؤكد الباحث محمد الداهي أن ابن خلدون ليس شخصاً مغموراً حتى يحتاج إلى التعريف بنفسه، لكنه «اضطر إلى ذلك للدفاع عن نفسه أمام الخصوم، وإثبات أهليته العلمية».
ويبين الباحث أن ابن خلدون هو «أول كاتب عربي خصص لتاريخ حياته كتاباً كاملاً». ويضيف أن طه حسين يميز بين رحلة ابن خلدون التي تنحو إلى السيرة الذاتية وبين رحلات مؤرخين آخرين اعتنوا بالوصف الجغرافي، في حين ركز ابن خلدون على حياته الشخصية ولم يهتم بالوصف الجغرافي. وقد «تبنى كتابة نثرية جديدة لاستعادة ماضيه الشخصي، فتجنب السجع واختار الكلام المرسل الجزل الذي يتميز به عن أهل الصناعة». وكانت السير العربية القديمة تعطي الأولوية للتكوين الفكري على حساب جوانب أخرى تهم تجارب الذات في الحياة وموقفها من صروف الدهر وتقلبات الأيام. 
التاريخ والسيرة الذاتية
يرى الدكتور الداهي أن هناك قواسم مشتركة كثيرة تجمع بين التاريخ والسيرة الذاتية، لكن كل واحد منهما يتميز بطريقته الخاصة في إعادة تشكيل الماضي. فالمؤرخ يتناول قضايا عامة تهم التسلسل الزمني، وتعاقب السلالات والدول، في حين يعالج كاتب السيرة الذاتية قضايا جزئية تتعلق بما يجري في القصور، وما يحدث في الضواحي، وما يقع في البيوت، وما يعتري النفس من مخاوف وهواجس. والمؤرخ يتوخى الموضوعية والصرامة العلمية، بينما يتورط كاتب السيرة في واقعة ما بالمشاركة فيها.
ويؤكد الباحث الداهي أن ابن خلدون استطاع - بما أوتي من ملكات أدبية ولغوية - أن يبلور مشروعاً في السيرة الذاتية بجمع بين الإمتاع والإقناع، ويوفق بين الأدبي والتاريخي.