سعيد ياسين (القاهرة)
مازالت بوتقة الأديب المصري والعربي الكبير نجيب محفوظ مليئة بالأسرار، ويكشف الروائي والكاتب يوسف القعيد بعضاً منها، وهو الذي كان مقرباً منه لعدة عقود، وربطته به علاقة وطيدة امتدت لأكثر من أربعين عاماً منذ 1965 وحتى وفاته في أغسطس 2006.
وقال القعيد لـ«الاتحاد»، إنه تعرف على نجيب محفوظ بعدما اتصل به ليهديه روايته الأولى «الحداد» التي صدرت عام 1965، خصوصاً وأنه كان الأديب الوحيد الذي يعقد ندوة أسبوعية مساء كل جمعة في مقهى «ريش» بوسط القاهرة لمدة ثلاث ساعات يتحدث فيها مع شباب الكتاب ويقرأ لهم، والمفاجأة الحقيقية له، أنه ذهب إليه في الأسبوع التالي ليجده قرأ الرواية المكونة من أربعة مونولوجات، وقال له محفوظ، إن المونولوج الأول والثاني يكفيان، وأن الثالث والرابع تكرار لهما.
توهم القعيد أن هذا الرأي نتيجة صراع الأجيال، في محاولة لزرع اليأس في جيل الشاب، ولكنه حين أصدر طبعات جديدة من الرواية وقرأها جيداً، اكتشف أن رأي محفوظ صائب تماماً، ويعكس قراءته للرواية بتمعن جيد.
وأضاف، أن مصر في ذلك الوقت كانت مليئة بالأدباء وتعج بهم، لكن لم يكن منهم من يهتم بالشباب، وجيل الستينيات كله نشأ على يديه وفي جلساته بالمقاهي.
مجموعة الحرافيش
أشار القعيد إلى مجموعة «الحرافيش» الذين التصقوا واقتربوا من محفوظ، وتشكلت علاقته بهم عبر سنوات طويلة، ومنهم الفنان أحمد مظهر وصلاح أبو سيف ومحمد عفيفي وتوفيق صالح، وبهجت عثمان زميل القعيد في مؤسسة دار الهلال، الذي كان يأتي ليجلس معهم يوم الخميس.
وكتب عفيفي مقالاً نشره في أول عدد خاص عن محفوظ في مجلة الهلال بعنوان «الرجل الساعة»، رصد فيه أنه نظم وقته لدرجة أنه يجلس ليكتب ساعتين وبعدها بالثانية يتوقف، لدرجة أنه لو كتب الفعل، فإنه لا يكتب الفاعل إلا في الجلسة التالية، ويترك الجملة معلقة ومبتورة إلى أن يأتي موعد الكتابة.
وكشف القعيد أن محفوظ لم يكن يكتب طوال أيام السنة بسبب حساسية العين التي أصابته، إنما من أوائل أكتوبر إلى أواخر مارس أو أوائل أبريل، ومع ذلك أبدع هذا الإنتاج الذي لا يدانيه فيه أحد في تاريخ الرواية العربية، منذ أن عرف الأدب العربي المعاصر فن الرواية.
ويرى القعيد، أن محفوظ مؤسس الرواية، وليس الدكتور محمد حسين هيكل صاحب رواية «زينب»، لأنها الوحيدة لهيكل، أما محفوظ فله مشروع روائي متكامل، وقدم انجازاً عظيماً، وصاحب مشروع في كتابة النص الروائي والقصة الطويلة والقصيرة والمعالجة المسرحية الدرامية، وقضى عمره يقرأ ويكتب ولا شيء غير هذا على الإطلاق. وبعدما كتب في بداية حياته رواياته التاريخية الثلاث «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة»، كان يريد أن يستمر في هذا النهج ويؤرخ لمصر من الفراعنة حتى العصر الحديث، ولكنه تبين أن الأديب والمؤرخ جرجي زيدان كتب روايات يؤرخ فيها لتاريخ مصر، فتحول عن هذا المشروع إلى روايات تتناول الواقع، وأبدع ما لا يتصوره أحد حتى هو نفسه.
استثمار الوقت
كان أديب نوبل يدعو باستمرار لاستثمار الوقت، مع أنه يقضي أوقاتاً طويلة على المقاهي، يذهب إلى ريش كل الجمعة، وقال القعيد، إنهم ذهبوا معه لمقاه كثيرة، لكن عبقريته كانت في تنظيم وقته بشكل مثالي بين القراءة والكتابة، بشكل صارم، وهذه المسألة لم تكن للتصدير للآخرين بقدر ما كانت التزاماً لديه واحتراماً للوقت.
وأوضح أن نظرة المعاصرين لمحفوظ والأجيال التالية والسابقة له تغيرت بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1989، ومنهم يوسف إدريس الذي شن عليه هجوما وعلى الجائزة، ويشهد القعيد للتاريخ بأن محفوظ حصل على نوبل بجهده ودأبه في الكتابة واعتبارها وسيلته الوحيدة في التعبير عن نفسه إزاء العالم.
واختتم القعيد بأن محفوظ حرص طوال حياته على القراءة والكتابة، بجانب قراءة الحياة من خلال المقاهي والاستماع لشرائح مختلفة من البشر، وهو ما وفر له مادة ثرية لما يجري في الواقع، وكان على المستوى الإنساني ودوداً ومحباً للحياة والناس، ولم يكن ينظر مطلقاً إلى عيوب الآخرين، ولكن إلى مميزاتهم، وهذه كانت واحدة من عبقرياته الكثيرة.
وكان المقهى الذي كتب عنه رواية «قشتمر» مهما ولم تكن هناك صدفة في حياته، ولكن تصميما ومثابرة، وعلى الجانب الإنساني كان ودوداً ومحباً للحياة، وتعلم منه ألا ينظر إلى عيوب الآخرين، ويحاول أن يبحث عن مزايا لهم ويتذكرها ويتعامل معها، وهو ما مكنه من معرفة نماذج كثيرة من البشر تمتلئ بها رواياته.