سعد عبد الراضي (أبوظبي)
شفافية التأريخ تظل مفتاحاً دائماً لإعادة بناء التأريخ الشفاهي في كل عصر، ليس فقط لأنه الأصل في التدوين الإنساني قبل لحظة انطلاق منظومة الكتابة، ولكن لأن التفاصيل كلها تكمن فيه، فعندما يستمع المؤرخ لنماذج مختلفة من المجتمع عايشت الفترة الزمنية التي يود معرفة تفاصيلها، فإنه بلاشك ستظهر ملامح مشتركة بين كل هذه النماذج، ملامح تجلي ماوراء الصور من مأكل ومشرب وملبس وسلوك اجتماعي بل وكل جوانب الحياة الاجتماعية. «الاتحاد الثقافي» في هذا التحقيق تضيء على جهود الدولة والمؤسسات والأفراد في التأريخ الشفاهي.
في البداية، تقول فاطمة المزروعي، رئيس قسم الأرشيفات التاريخية في الأرشيف والمكتبة الوطنية: التاريخ الشفاهي، بات ثقافة وعلماً له أسس وطرق في التعامل معه وجمعه من المصادر الشفاهية التي يتعامل الباحث معها، ولا يمكن الحصول عليه بسهولة، بل يحتاج إلى بروتوكول معين في التعامل مع الشخص لضمان الحصول على المعلومات التاريخية، فالباحث لا بد أن يكون على دراية ومعرفة في التعامل مع ذاكرة الراوي، حتى يتمكن من الحصول على المعلومات، فهو يغوص في الذاكرة محاولا استخلاص تفاصيلها الدقيقة، وفي المقابلات الشفاهية يمكن استخلاص مواد مهمة ومرويات مهمة لها أثر في تاريخ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
وأضافت المزروعي: أسهم علم التاريخ الشفاهي في تسجيل أحداث مهمة لعبت دوراً مهماً في تاريخ دولة الإمارات، ورغم أن هذا العلم قد عانى من الرفض في البداية، ولكن الأرشيف والمكتبة الوطنية سعى لدعم هذا العلم ومحاولة تطويره وتثقيف المجتمع بأهميته، ولذلك نجد أن هناك وحدة التاريخ الشفاهي التابعة لإدارة البحوث والخدمات المعرفية في الأرشيف والمكتبة الوطنية، والتي قامت بعمل الكثير من اللقاءات مع العديد من الشخصيات الكبيرة في السن، وحفظه وتدوين ذكرياتهم عن المنطقة والأحداث والمواقف. لقد قامت وحدة التاريخ الشفاهي بعمل حصر للأسماء في مناطق الدولة وخصصت موظفين على دراية بالتعامل مع ذاكرة الأشخاص باستخدام الصور والصوت، وكم هو جميل أن يكون الإنسان العادي هو المؤرخ، وهو الذي ينقل القصص للأجيال القادمة.

وتابعت المزروعي: من دون شك إنه تاريخ من الإنسان للإنسان، نريد فقط أن تستوعب عقليتنا الثقافية هذا البعد الإنساني، ونحافظ على ريادتنا ليس في العالم العربي فحسب وإنما على مستوى العالم بأسره، في الاهتمام ورعاية واستخدام هذا العلم – التاريخ الشفاهي – لتبقى ذاكرتنا متوهجة جيلاً بعد جيل، بتاريخ بلادنا وقصص كفاح الأجداد والآباء لتدوم هذه النهضة وتستمر مسيرة التطوير الحضاري، وتحفظها الذاكرة، ونكون قد نجحنا في بناء جسر متين بين الماضي وصولاً للحاضر، ولنتخطى المستقبل بتفوق، وفي ظني أن هذا الذي سيكون حليفنا القوي في أي تحد تواجهه الإمارات.
وأضافت: أقيمت دورات تدريبية، وتم توثيق كثير من الروايات الشفافية التي تناقلتها الذاكرة من جيل لآخر، فتم تسجيل جلسات مطولة مع الكثير من المعمرين والمخضرمين، ومن خلالهم تم التعرف على أحداث تاريخية كثيرة، بل والتعرف على أنماط الحياة من عادات وتقاليد المجتمع الإماراتي، وهذا المشروع تم توثيقة بحوارات صوتية ومرئية، وبعدها تم تصنيفها ثم حفظها وكانت هذه الخطوة ذات إثراء معلوماتي وعلمي، حيث أسهمت الروايات الشفاهية في سد ثغرات أو مراحل زمنية كانت مبهمة ولم يوجد عنها أي مرجع تاريخي. 

لئلا ننسى 
تقول آية ظافر، واحدة من مؤسسي مبادرة «لئلا ننسى»، التي تعنى بتوثيق التاريخ الشفاهي لدولة الإمارات، حيث عملت فيها لمدة تسع سنوات كمؤرخة ومصورة وموثقة بشكل احترافي للتاريخ الشفاهي الإماراتي: من خلال تجربتي في المبادرة أرى أن التأريخ الشفاهي له أهمية كبرى في مسيرة حفظ التراث الإماراتي، حيث كنا نلتقي كبار السن ونستمع إلى قصصهم وذكرياتهم لنوثق منها التفاصيل غير الملموسة والمعروفة التي تمكننا بدورها من التعرف إلى جوانب مهمة في الحياة الاجتماعبة بكل دقائقها، ففي كل الذكريات اليومية التي يرصدها الحوار الشفاهي المباشر تظهر تفاصيل أعمق تتعلق بمبادئ وقصص مجتمعية تربوية وتعليمية، مما يجعلنا نستخلص معلومات مهمة مرتبطة بتاريخنا وتراثنا.
وأضافت، أن الكتب يمكن أن تكون مصدراً معرفياً مهماً، ولكن التأريخ الشفاهي يرصد الواقع التراثي بشكل أفضل وأشمل لأنه يتعلق بكل تفاصيل الحياة اليومية من وحي من عايشوها.

وأكدت ظافر أن الجهود فيما يخص التأريخ الشفاهي حالياً مهمة وأصيلة، والمؤسسات وأصحاب المبادرات الخاصة بدؤوا بالفعل في مرحلة مهمة وهي دمج الحاضر بالماضي من خلال اللقاءات المباشرة والمبادرات التفاعلية الموجهة للجمهور، وتسليط الضوء عليها، ليس فقط عبر وسائل الإعلام، ولكن حتى من خلال الوسائل الحديث المتعلقة بالتواصل الاجتماعي. 
وأضافت أن مبادرة لئلا ننسى أضاءت شعلتها الأولى طالبات جامعة زايد، وتمحورت حول أرشفة وتوثيق التاريخ الشفاهي المحلي من خلال مقابلة شرائح مختلفة من المجتمع الإماراتي من كبار السن، من أجل التوثيق لكل تفاصيل الحياة الاجتماعبة قديماً.. من صور، وأدوات ولباس إماراتي، وإبراز القصص الملهمة خلف الأشياء التي نوثقها.

فاطمة المنصوري: تعزيز الشعور بأهمية التراث الشعبي
تقول فاطمة المنصوري، مديرة مركز زايد للدراسات والبحوث التابع لنادي تراث الإمارات: يعتبر التاريخ الشفهي أو التاريخ المروي من المصادر التاريخية المهمة في قراءة وتوثيق تاريخ المنطقة، لاسيما التاريخ الاجتماعي والثقافي، حيث يمدنا بمعلومات مهمة وجديدة عن الحقبة التاريخية الماضية، في جميع مناطق الدولة وهي معلومات لا تكون متوافرة في التاريخ المدون والذي نقصد به الوثيقة البريطانية التي اهتمت بتوثيق التاريخ السياسي والاقتصادي، أو ما كان يقع في دائرة اهتمام المستعمر البريطاني بالدرجة الرئيسة. 
وأضافت: اهتم نادي تراث الإمارات منذ تأسيسه، وتأسيس إدارة مركز زايد للدراسات والبحوث كذراع ثقافية للنادي، بجمع مصادر تاريخ المنطقة لاسيما مصادر التاريخ الشفاهي، والتي تعتمد على الرواية الشفهية بالدرجة الرئيسة، فقد اهتم المركز بهذا المشروع وفق رؤية محكمة تمحورت أهدافها حول العمل على تعزيز الشعور لدى أبناء الدولة بأهمية تراثهم الشعبي وضرورة الحفاظ عليه وبذل قصارى الجهد لتوثيقه، وتنظيم الدورات التدريبية لتأهيل وتدريب جيل من الباحثين المواطنين للقيام بأعمال الجمع الميداني في مختلف مجالات التراث الإماراتي، وإعداد الدراسات والأبحاث المتعلقة بتاريخ الإمارات الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، استناداً إلى تلك الروايات الشفهية، والعمل على تأسيس أرشيف وطني قائم على جمع أكبر عدد ممكن من الروايات الشفهية، ولم يكتف المركز بوضع تلك الأهداف وإنما ربطها بخطة واضحة جاءت وفق مجموعة من الإجراءات التنفيذية تمثلت في إجراء مسح ميداني لمدن الإمارات وإجراء اللقاءات مع كبار المواطنين، ومع الأشخاص ذوي الخبرة وتسجيل هذه المعلومات والأحداث وتفريغ هذه اللقاءات وتصنيفها وفهرستها بما يخدم الباحث ويسهل مهمة الباحثين، وإعادة صياغة هذه المعلومات وإعدادها للنشر وإجراء مقارنات بين ما ورد من معلومات مستقاة من خلال هذه الروايات وبعض الدراسات والوثائق التي تتطرق إلى مواضيع مشابهة. وعلى مستوى المجال الأكاديمي والعلمي، فالمركز عمل على تنظيم العديد من المؤتمرات والندوات والملتقيات والدورات التدريبية التي أسهمت في التعريف بهذا المصدر المهم من مصادر التاريخ، ونذكر منها على سبيل المثال مؤتمر الملتقى الخليجي الأول للتراث والتاريخ الشفهي وندوة مناهج توثيق التراث الشعبي في دولة الإمارات والخليج العربي، وندوة مصادر كتابة تاريخ الإمارات.