الفاهم محمد

عن سن ناهزت 97 رحل عن عالمنا في التاسع من الشهر الجاري، المفكر والسوسيولوجي الفرنسي ألان تورين. 
يعتبر الرجل أحد المؤسسين الجدد لعلم الاجتماع ما بعد دوركهايم. قضى أكثر من نصف قرن كأحد المتخصصين في ما يطلق عليه «الحركات الاجتماعية الجديدة». وقد نشر خلال حياته أكثر من خمسين كتاباً، أغلبها ارتبط بفهم أوضاع الحركة العمالية في عهد الثورة التكنولوجية، والتغيرات الاجتماعية المرتبطة بها. 
تقلد خلال حياته عدة مناصب مهمة أبرزها سنة 1967 مستشاراً لوزير التربية والتعليم ألان بيرفيت. ثم بعد ذلك مديراً بقسم علم الاجتماع في جامعة نانتير. كما تم ترشيحه للأكاديمية الفرنسية سنة 2002، إلى جانب دفاعه عن حقوق الطبقة العمالية، وضرورة تحسين أوضاعها الاجتماعية، يحسب له أيضاً دفاعه سنة 1982 عن حق ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التعليمية، حيث وقع إلى جانب العديد من المثقفين بياناً من أجل العلمانية المفتوحة.
الخيط الناظم
قدم ألان تورين خلال مسيرته الفكرية شبكة ضخمة من المفاهيم الفلسفية والسوسيولوجية، المتداخلة مع بعضها بعضاً. لهذا السبب يعتبر فكره كأحد الأنساق النظرية المعقدة التي يصعب تبسيطها. مع ذلك يمكن الاسترشاد ببعض المفاهيم الأساسية، التي تلعب دور الخيط الناظم لفكره. على رأس هذه المفاهيم نجد فكرة التحول الاجتماعي، فإذا كانت المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع مع تالكوت بارسونز مثلاً، تنظر إلى المجتمع كوحدات متعاونة ومتضامنة، تتجه نحو التكامل والاستقرار. فإن ألان تورين يرى أن مثل هذا المنظور الستاتيكي للمجتمع، ينتهي إلى الدفاع عن ثبات السلطة، بدل الحركة والتغيير. في نظره الفاعل الأساسي اليوم داخل المجتمعات ليس الأفراد «الثوريون»، ولا حتى الأحزاب والنقابات، بل إن الفاعل الأساسي هو الحركات الاجتماعية المميزة للمجتمعات ما بعد الصناعية. والمقصود بهذا الأمر هو أنه إذا كان الصراع الطبقي، والنضال من أجل الحقوق العمالية، هو ما يميز الحقبة الصناعية. فان المرحلة ما بعد الصناعية التي نعيشها تعرف حركات اجتماعية تتجاوز مطالبها المجال العمالي.
هكذا لم يعد العمل هو المصدر الأساسي للصراع، بل السعي من أجل توجيه المجتمع نحو أهداف تاريخية حضارية وثقافية. في نظر ألان تورين هذا الهدف «التاريخاني» هو الموضوع الأساسي للحركات الاجتماعية. بطريقة أخرى، من سيتحكم في التوجهات الاجتماعية والقيمية للمجتمع وتحديد هويته في المستقبل.
الباراديغم الجديد
لكل الاعتبارات السابقة يرى ألان تورين أيضاً، أننا في حاجة ماسة اليوم إلى «باراديغم» جديد من أجل فهم التحولات التي تحدث في عالمنا. فإذا كان النموذج القديم يتمحور حول الاقتصاد والسياسة، فان النموذج الجديد تحتل القيم الثقافية المركز فيه يقول:«... بعد انقضاء قرنين على انتصار الاقتصاد على السياسة، فقد باتت هذه المقولات  الاجتماعية مبهمة، تترك في الظل قسما كبيراً من تجربتنا المعيشة، وبتنا معها بحاجة إلى باراديغما جديدة، لأنه لم يعد في وسعنا العودة إلى الباراديغما السياسية، لاسيما وأن القضايا الثقافية بلغت من الأهمية حدا يفرض على الفكر الاجتماعي الانتظام حولها»... وهكذا يمضي ألان تورين في تحليل التحولات العميقة التي تجري في المجتمعات المعاصرة، وهي تحولات يصفها بـ«التاريخية» حيث أدت إلى ظهور أشكال احتجاجية جديدة تعبر عن مجتمع مغاير، لم يعد الصراع يتمركز فيه حول ما هو مادي واقتصادي فقط، بل إن الصراع يتمحور اليوم حول امتلاك المعرفة. وبلغة مغايرة لقد تم استبدال العمال ذوي الياقات الزرقاء، بالعمال ذوي الياقات البيضاء. لقد كان الان تورين من أوائل علماء الاجتماع، الذين ميزوا بالفعل الأشكال الجديدة للصراع الاجتماعي عن الشكل التقليدي الذي ساد فيما قبل. ففي المجتمع ما بعد الصناعي تعتبر هذه الحركات الاحتجاجية الجديدة {البيئويون، مناهضو العولمة، الحركات النسائية، المدافعون عن حقوق الإنسان...} علامة مميزة لأشكال جديدة من الصراع، تكون فيها القيم اللامادية هي الموضوع الأساسي.
أزمة الحداثة
في كتابه نقد الحداثة الصادر سنة 1992 يتابع ألان تورين توسيع أطروحته هذه، مؤكداً أن الحداثة التي رفعت في بدايتها مشروع تحرير الإنسان، وضمان حريته وسعادته، قد تحولت اليوم إلى عكس ذلك تماماً. في جملة منذرة يقول: «كقصر من الرمال يطيح به المد، ينهار المجتمع الصناعي أمام أعيننا».  
مع ذلك في آخر أعماله: «الدفاع عن الحداثة» الصادر سنة 2018 حاول تورين رسم بعض المعالم للخلاص من الأفول المميز للمجتمعات ما بعد الصناعية، مستنهضاً هذا الإنسان القادر على تغيير بيئته الاجتماعية، بفضل ما يملكه من إرادة.
إن تركيز ألان تورين على ضرورة دراسة الحركات الاجتماعية، موجه من أجل إعادة الاعتبار للفاعلين الاجتماعيين الذين يبحثون عن مناهضة السيطرة والبحث عن التغيير. ولا شك أن جهوده الفكرية التي يتقاطع فيها العمل التطبيقي، مع العمق النظري، إضافة إلى الكتابة الأنيقة المكللة بالعبارات البليغة، والمكثفة الدلالة، كل ذلك جعلت أعمال ألان تورين تسهم في تأسيس السوسيولوجيا الجديدة، في مقابل السوسيولوجيا التقليدية مع اوجست كومت ودوركهايم.
عموماً تحتل أعمال ألان تورين موقعا ملتبساً، فخصومه ينظرون إليه على أنه مدافع عن الليبرالية، وهو ما يرفضه بطبيعة الحال. كما ينظر إليه في اليسار على أنه مفكر يقع خارج النمط اليساري التقليدي. إلا أن موقعه الفكري الملتبس هذا جعله أيضاً موضع تقدير من جميع الأطراف.
في تغريدة على التويتر قام صديقه الفيلسوف الفرنسي الشهير ادغار موران، بتأبينه بهذه الكلمات قائلا: «رفيق 70 عامًا من العمر، عالم اجتماع عظيم نافد البصيرة، وروح نبيلة، مخلصة وعظيمة، فخر الفكر الفرنسي».