إيهاب الملاح
لم يكن خبر رحيل الشاعر والمثقف المصري الكبير محمود قرني (1961 - 2023) مفاجئاً لمن يتابع حالته الصحية المتدهورة، بقدر ما كان موجعاً ومريراً لكل من عرفه أو أدرك قيمة إبداعه الشعري، والمساحات الهائلة التي ملأها نقداً وقراءة وإشاعة للمعرفة الفنية والإبداعية والفكرية في كل المجالات. نهاية تراجيدية تليق بشاعر نبيل متعفف مترفع عن الطلب والجأر بالشكوى، كان كما يصفه المفكر المصري نبيل عبد الفتاح بأنه «حالة من نكران الذات المعبرة عن الثقة فيما يبدعه ويكتبه وبقائه حياً، يصوغ الأمل في الشعر والكتابة من قلب خرائب الحياة. ثقة عميقة أن مكانة إنتاجه مقدرة سواء قال بعضهم واعترف بذلك، أو أنكر أو صمت، شأن الكثيرين في النقد، والكتابة المهيمنة».
محمود قرني واحد صوت شعري من أبرز وأهم بل وأكبر أصوات ما يسمى بجيل الثمانينيات في قصيدة الشعر العربية، وأحد رواد ومبدعي قصيدة النثر في ذروة تجلياتها التصويرية والإبداعية، بين الطبقة الأولى من كتابها ومبدعيها في مصر والعالم العربي.
«أحد بناة العوالم التخيلية لقصيدة النثر»، كما يطلق عليه نبيل عبد الفتاح، وموقعه بارز في جيله، وما بعده، من شعراء قصيدة النثر، من هنا تبدو المفاضلة بينه وبين الميراث الثقافي للشعرية العربية الكلاسيكية، والوسطية والإحيائية والتجديدية، للقصيدة العمودية والشعر الحر، أو الشعر المنثور.
جاء ومعه شعره في جيل الثمانينيات، في ظل شيوع ذائقات «تقليدية» حول الشعر، وموسيقاه، إيقاعاته ومجازاته، صوره ولوحاته، تكرسها تقاليد تعليم الشعر العربي في المدارس والجامعات وتفضيلات غالب النقاد.
الموقف «الضد»
أكثر من عشرة دواوين سخية وخصبة بتجارب شعرية فريدة، رؤى للعالم ومكابدات معرفية يقودها الحدس، وشراهة للتجديد والابتكار وخلق قصيدة مخصوصة، لا تقلد أحداً ولا تشبه صورة ولا تنقل خبرة أي خبرة! إنها رحلة البحث عن «لؤلؤة المستحيل» كما كان يطلق عليها الناقد الراحل سيد البحراوي.
كان محمود قرني يؤمن بأن الشعر هو الحياة، وأن المعرفة الشعرية معرفة حدسية وليست عقلية، لذلك فقد ظلَّ يحاول الحفاظ على أن تظل هذه المعرفة «اللا يقينية» تمثل حدود معرفته بالأشياء وتمثله لها.
مثَّل محمود قرني في مجمل ممارسته الشعرية ورؤاه النظرية ومفاهيمه النقدية «موقفاً ضدّاً» إذا جاز التعبير من مجمل الممارسات الشعرية العربية التي سادت فيما بعد جيل الستينيات، رفض تماما تخلي الشعر عن اشتباكاته مع السرديات الكبرى، ورفض اقتصار معجمه على التداولي فقط وردّ للشعر الكثير من الذخيرة التي اقتطعت منه، تصويراً وتركيباً ومعجماً وتوظيفاً للتراث.
رفض مبكراً جداً ما أطلق عليه «البؤس النقدي» الذي شاع حول المواصفات التي يجب أن تكون عليها «قصيدة النثر». كان ضد المواصفات والمواضعات معاً.
في الوقت الذي رأى فيه الكثيرون قصيدة النثر بابًا للخروج من الشعر والتخلي عن عناصر أصيلة من عناصر شعريته، كانت قصيدة النثر بالنسبة لمحمود قرني باباً مفتوحاً على مصراعيه، بالحرية الكبيرة التي تمنحها للشعر والشعراء، لتوظيف كل معارفه الحدسية والعقلية حتى يتمكن النص من تجديد أغراضه، ومن ثم تطوير وظيفته.
كفاح قصيدة النثر
أسس محمود قرني مع آخرين ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة لدورتين متصلتين في 2009 و2010 بمشاركة أكثر من أربعين شاعراً عربياً، وكان عنصراً مشاركاً في تأسيس العديد من الفعاليات الثقافية. وعلى مدى ثلاثة عقود تقريباً، أصدر محمود قرني ما يزيد على عشرة دواوين شعرية آن الأوان لأن تصدر في طبعة كاملة، من هذه الدواوين:
«حمامات الإنشاد»، «خيول على قطيفة البيت»، «هواء لشجرات العام»، «طرق طيبة للحفاة»، «أوقات مثالية لمحبة الأعداء»، و«لعنات مشرقية»، وغيرها.
في عام 2022 ورغم المعاناة والمرض، صدرت له ثلاثة أعمال دفعة واحدة، هي:
مختارات من شعره بعنوان «خاتم فيروزي لحكيم العائلة» (عن الهيئة العامة لقصور الثقافة)، وآخر يضم دواوين من شعره بعنوان «خريطة مضللة لمساكن الأفلاك» (عن الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وآخر دواوينه الشعرية «مسامرات في الحياة الثانية».
إضاءة تعريفية
ولد محمود قرني في قرية العدوة بمدينة الفيوم 1961، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة، وحصل منها على درجة الليسانس في القانون عام 1985، وأقام بالقاهرة بصفة نهائية منذ عام 1987.
عمل بالمحاماة والصحافة. شارك في العديد من المهرجانات الشعرية العربية والدولية، بينها مهرجان أصوات المتوسط بفرنسا 2002، جرش 2004، مهرجان الشعر العربي بالمغرب 2009، مهرجان وهران لفنون الصورة والفيلم التسجيلي 2013 بالإضافة إلى عدد من المهرجانات الشعرية بالإمارات، والكويت، العراق، الأردن، والمغرب، وكذلك بعض المشاركات البحثية الأخرى.
كما شارك في لجان تحكيم بعض الجوائز العربية والمصرية، مثل جائزة بلند الحيدري التي يمنحها منتدى أصيلة بالمملكة الغربية. نشر عشرات بل مئات المقالات حول الشِّعر والفلسفة والرواية والنقد الأدبي والفنون التشكيلية. وكان من أغزر الكتاب في الصحافة المصرية والعربية، لم ينقطع عن الكتابة والنشر بالدوريات والصحف والمجلات المصرية والعربية طيلة ما يقرب من ربع القرن. صدر له ما يزيد على العشرين كتاباً راوحت بين الدواوين الشعرية، والكتب والدراسات الأدبية والنقدية.