ظلّ هذا السؤال يراوح مكانه حتى فترة وجيزة، فما انفك النّقاد يتطارحونه محاولين كشف حاجتنا للكتابة وعن السبب الكامن خلف دواعي الكتابة ومسبباتها الفعلية وكيفياتها، ولأن الإجابة عن هذا التساؤل المشروع ظلت غبّ الأخذ والرد ولم تحسم بشكل قطعي، فقد تراوحت بين تصورين: الأول عدّ الكتابة مسؤولية اجتماعية وخطاباً تطهيرياً يوجه للآخر، بغية تحقيق تغيير أو اختلاف قيمي في المجتمعات الحاضنة للأدب والفن عموماً، والآخر عدّها حالة تشوّف ذاتية ترتكز أساساً على الذات ومكنونها الداخلي الذي لا يمكن تصوّره وتقييده.
وفي الجانب الآخر دأبت حركة النقد منذ فجرها على ابتداع مناهج تنقد الإنتاج الأدبي الإنساني ذاك، إذ إن شأو الشعر عند اليونانيين هو إثبات قيم الخير والحق والحدّ من الشرور.. وهو ما أكدته لاحقاً مدرسة النّقد الماركسي التي نازعت كل التيارات النقدية غير السياقية التي حاولت أن تميل للكتابة بوصفها إبداعاً فردياً خالصاً، بيد أن أصحاب التيار البنيوي وشعار الفن للفن انتصروا لاحقاً على شعار الفن للمجتمع متحصنين بالمركزية الأوروبية، فقد عدّ البنيويون الأوربيون الكتابة جهازاً يسهل تفكيكه وكذا الكشف عن علائقيته التي تنظّم دواخله العميقة، وفي المقابل تم التنازل عن الوظيفة التطهيرية الجمالية تلك وصارت فيما بعد اللّغة الأدبية تنتمي لأنساق خاصة تتبلور فيها ومنها، وهو ما أيدته بشدّة مدرسة النقد الأميركي الجديدة، فصار لدينا الأدب النسوي والعرقي وأدب المهاجرين وسواهم.
 وهنا نرى أن الكتابة الأدبية رغم ذاك الاحتدام النقدي لا يمكن بالمرّة فصلها عن الذّات، فالذّات متقلبة، ولا يمكن توقعها أو تصوّرها حسب المواقف والسياقات والرغائب، ما يجعلها في حالة اشتباك مستمرة مع السياقات الإنسانية التي تصطدم بها، وهي فعل فضّل المواجهة على الصمت حين كان في الصمت السلامة وفي الكتابة خرقٌ للنواميس ومحاولة للقرب ومعانقة العالم الذي يحدق بنا، ولذا فالكتابة خروج عن النسق العادي، وهي في ذات الوقت محاولة لملء الفراغ التالي الذي نتج عادة عن قصور طبيعي في اللغة التواصلية الطبيعية وعن الرغبة في عدم الاستسلام للحجج المضادة والواقع الراهن، فالكتابة بحث عن حيز جديد لا يمكن أن يكون نهائياً، فالشاعر لا يركن لقصيدة واحدة ولا لديوان شعري واحد، إنّه في حالة حركية مستمرة تريد العبور إلى رؤية جديدة. وهذا لا يعني أن اللّغة بحروفها ووحداتها الصوتية والصرفية والمعجمية عاجزة عن تحقيق الكفاية المطلوبة، بل الأمر في ذمّة الذات المتعطشة دوماً لحرق المعاني وإيجاد غيرها بكل ما تملك من قدرة على تحقيق انزياحات في اللغة وتحسينات بلاغية قادرة على تأطير المعطى الاجتماعي المحيط بنا، فاللّغة الأدبية وبكامل طاقتها المجازية غير العادية لا تريد أن تفسر هذا الوجود وحسب، بل تريد التثبت من أنها قادرة على فهمه نتيجة التضادية في السياق الاجتماعي والتي تعد المسوغ الأهم للكتابة.
 إن الشعور بالتجلي بعد مكابدة فعل الكتابة شعور مؤقت، سرعان ما يستجلب الحاجة إلى رؤية أحدث تستدعي من جديد تقانات ما قبل الكتابة كالتأمل والحدس والبصيرة، فالرّوح طاقة كامنة تطمئن، لكنها لا تستقر، وما الأدب وفق هذه النظرة سوى إقرار بأن المعنى ليس ملكاً لأحد والكتابة فعل يتفلّت من كل أحد.

* د. نزار قبيلات، أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية