محمد عبدالسميع (أبوظبي)
ما إن تعودت أصابع الناس على الشاشات الزرقاء وتنقّلت في فضاءاتها المفتوحة، حتى وجد بعض أصحاب النصوص والقصائد والكتب أنفسهم في ورطةِ أنّهم باتوا يُقلَّدون في أعمالهم بطرق فجة أحياناً ومكشوفة، بل وقد يُسرق إنتاجهم جهاراً نهاراً، ويقع السطو على إبداعاتهم وما تعِبوا من أجل إنتاجه، وربما أمضوا فيه سنوات طوالاً من العمل والمواكبة والتزوّد بمواضيع وتقنيات الإبداع. وهذا بحدّ ذاته جعل هذه الظاهرة على وسائل التواصل الاجتماعي محلّاً للشكوى الدائمة والخوف والقلق والدعوة في عدة بلدان لتشريع رادعٍ يحمي ويحفظ الحقوق، ويضمن استمرار عملية الإبداع، إلى درجة أنّ ثمة من المبدعين من توقف حتى عن كتابة نتاجه الإبداعيّ على هذه الوسائل، خوفاً من أن يُسرق أدبيّاً أو فكريّاً أو تسرق نظرية هو قائلٌ بها أو بحث تعب لإنجازه.
وهكذا، فقد كان التقهقر بحجم الخوف من اختلاط صاحب النصّ الأصليّ وأصحاب النصوص المزيفين، فلم يبق إذاً إلا أن تتدخل يدٌ منصفة تعيد الحقوق إلى أصحابها وتمنع السرقات الأدبية وتنصف المبدع من سطوة غير المبدع، وهذه اليد هي ما يعرف في كثيرٍ من الدول بقانون حماية حقّ المؤلف، وقانون الجرائم الإلكترونيّة أو التشريعات التي تعيد الثقة إلى النفوس، وتقرّ المبدعين على إبداعاتهم، فيتواصل الأدب والإبداع، ويطمئنّ الشعراء على قصائدهم بأنّها منشورة للعامة والخاصّة لكي يتذوّقوها لا لكي يسرقها البعض فيسجلوها بأسمائهم، إضافةً إلى حقّ الكاتب الأصيل في أن يفتخر بكتابه أو يبيعه أو يجني ثمرة تعبه المتواصل في هذا الموضوع أو ذاك. وفي استطلاع لـ«الاتحاد» تحدث عدد من الشعراء والنقاد والأدباء والناشرين، وبرز الوعي بأهميّة المسألة باعتبارها موضوعاً مطلوباً بالدرجة الأولى في الثقافة العربية، ويعضد ذلك التشريع الوطني الذي تصدره الدول لحماية حقّ المؤلف وإبداعه، وهو تشريعٌ رأوا أنّ من صفاته أن يكون مواكباً وفاعلاً وقادراً على استخلاص هذا الحقّ، وفي الوقت ذاته يردع أيضاً من اعتاد التساهل في السرقات واستمرأ قطف ثمار جهد غيره من أصحاب الحقوق بـ«كبسة زر».
تشكيل الوعي
والوعي بهذا التحدي الجديد الذي يواجه المبدعين هو الذي حدا بالشاعر السعودي عبدالرحمن السمين إلى وصف الموضوع بأنه خطير جداً على واقع ومستقبل الإبداع، نظراً لكون هذا الفضاء الرقمي مفتوحاً بين المرسل والمتلقي على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فكم من حالاتٍ يعاني أصحابها ذلك، ويجأرون بالشكوى من ممارسات الناهبين لجهود الغير، فقد بات المتلقي شريكاً في النشر، ولكنّ الأمر قد يتجاوز هذه الشراكة إلى «القرصنة»، وهي مصطلح خطير تضيع بسببه جهود وحقوق ملكيّة وأفكار لابدّ لها من رقيب يحميها، لكي نمنع هذا التخوّف أو التحوّط في النشر للإبداعات خشية السرقة. ولهذا، فالوعي، على أهميّته وتشكيله للرأي العام في معرفة الحقوق وإدراكها وتخويف المتعيّشين على سرقة الإبداعات والأفكار، وهو عامل أوّل وأساس، إلا أنه لا يكفي وحده، وينبغي ألا يبقى غير مدعوم أو مغطّى بقوانين مساندة، ولهذا انتبهت بعض الدول لهذا، فأنشأت جهات رقابيّة تردّ الحقوق لأصحابها عبر أقسام متخصصة تتبع لوزارة الثقافة والإعلام، وتقوم بدور فاعل في هذا المجال.
توثيق الأفكار
وهذا الأمر يحتاج من الكاتب نفسه أو صاحب الأفكار الإبداعيّة أن يقوم بما يجعل الملاحقة أمراً سهلاً، إذا أدركنا قيمة موضوع «توثيق» النصوص والمنشورات عبر قنوات المطبوعات الرسميّة، ليكون الإثبات حاضراً متى ما طُلب ذلك في عملية استرداد الحقوق، فبإعادتها، كما يقول الشاعر عبدالرحمن السّمين، نخلق حالة رادعة، لتصبح هذه المسألة «ثقافة» عامّة يتبعها المهتمّون ومن يحبّون النشر على هذا الفضاء الافتراضي الذي يتواصل عليه الجميع، لأنّها باختصار ثقافة جادة تقف أمام ثقافة مضادة: ثقافة الوعي بالحقوق والدفاع عنها بمساندة قانون وطني مقابل ثقافة الاستسهال والسرقة الأدبية.. لتلافي شعور المسروق إنتاجه بالإحباط والإحجام عن المشاركة الأدبية في الفضاء العام وعدم الجهر بالإبداعات لجمهور المتلقين.
تحديث القانون
إنها «فوضى» و«أسماء مستعارة» استمرأت سرقة قصائد الشعر، بعضها أو كلّها، كما يقول الشاعر الإماراتي علي المهيري، الذي يرى، وبكلّ حرص على الإبداعات، أنّ المسألة تحتاج، إضافةً إلى الوعي بالحقّ، والقانون الرادع، أن يكون هناك نوع من «التحديثات» على بعض القوانين ومواكبة الحالات الجديدة وملاحقتها، ففي حين تظلّ يد السارق الأدبي والفكري مرنة وخفيّة، فإنّ يد المدافع عن الحقوق يجب أن تكون أيضاً أكثر مرونةً هي الأخرى، بـ«أدوات» واعية تحمل الخبرة والمهارة في ردّ الحقوق وملاحقة السرقة الأدبية، منعاً للغبن أو التعدي على الحقوق الأدبية والفكرية بكافة أنواعها.
بين والتناص و«التلاص»
إنّ الأمر يحتاج أيضاً إلى معرفة متى تدخل الحالات في باب السرقة الأدبية، ومتى تجيء تحت أبواب أخرى ومفاهيم تنتشر في الوسط الأدبيّ والإبداعيّ مثلاً، كما في مفهومَيْ «التناصّ» و«التلاصّ»، كما تقول الناقدة السوريّة الدكتورة عبير خالد، فكلاهما مفهومٌ له حضوره كثقافة ومعرفة من قبل المبدع نفسه، حين يعرف متى يلجأ إلى القانون والشكوى ومتى يدرك معنى أحقيّة الآخرين في الإعجاب بالنصوص و«التناصّ» معها، وهذا مفهوم لا يمكن أن يظلّ فقط حكراً في تداوله على الأكاديميين أو «النخبة»، بل يتعيّن أن يتعدى إلى كلّ مستخدم ومنتج للإبداعات أو الأفكار التي يرى أنّها من حقّه وأنّها يجب ألّا تسرق.
وفي هذا تتحدث الناقدة عبير خالد، عن النظرية العقلانيّة التوليديّة التي بحث فيها تشومسكي، وحقيقة النصّينِ الغائب والحاضر التي بحث فيها محمد عزام، فالنصّ الحاضر يشتمل ضمنيّاً على النصّ الغائب عبر التناصّ، الذي لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يدخل في باب «التلاصّ» أو الانتحال والسرقة الأدبية، وهذا ما يؤكّد أهمية اقتراب وتقريب المفاهيم والمصطلحات الأدبيّة والقانونيّة من ثقافة المجتمع، لكي تصبح بمثابة الحجّة التي نقرأ بها الحالة ونعرف مسبقاً متى نلجأ إلى الشكوى وكذلك إمكانيّة الأخذ في حدود معيّنة تحت باب التناصّ، لنتجه إلى موضوع الحماية القانونيّة المعقولة أمام ضبط حالات القرصنة، وأمام السرقات الفكريّة والأدبيّة والإلكترونيّة، ولهذا، يجب أن تكون هذه الثقافة، ثقافة المعرفة القانونيّة، موجودة أيضاً لدى الاتحادات الثقافيّة، كما في اتحاد الكتاب مثلاً، لأنّ وجود الإجراء الرادع في الهيئة الثقافيّة، ولدى الأكاديميين، وفي المواقع الإلكترونيّة، أمرٌ يضمن، كما تقول الناقدة عبير خالد، أن يفهم كلّ فرد أو كاتب أو باحث حدود النقل والأخذ المسموحة، دون الوقوع تحت طائلة السرقات الأدبية، فحين يتمّ إغلاق موقع إلكتروني، على سبيل المثال، بسبب سرقات أدبية، فهذا يعطي رسالة واضحة بأنّ في الأمر جديّةً ومتابعةً واحتراماً للحقوق وتكريساً لقيمة الجهود واحتراماً لأصحابها ومنعاً للتعدي على حقوق الغير الفكرية، وما قد ينجم عن ذلك من شعور بالإحباط أو المرارة.
رقم الإيداع
ومن هذه الثقافة والمعرفة التي ينبغي أن تتوفّر لدى الكتّاب «رقم الإيداع»، المحلي، والدولي، علاوةً على وسائل التوثيق الإلكتروني الأخرى.
ولكنّ سرقة الأفكار الإبداعيّة ربما تقع أيضاً قبل أن يلجأ الأديب مثلاً إلى توثيق ما يفكّر به أو يصوغه، ولذلك قد يصبح من باب التسرّع، أن نكاشف أصدقاءنا أو المتلقين عموماً بمشروعات إبداعيّة أو أفكار قبل توثيقها، لأنّ التنافس بين أصحاب المجال نفسه سيكون واضحاً، مع احتمال سرقة الأفكار وتنفيذها، بمجرّد السماع بها في الأحاديث العامّة أو انتقال الأفكار دون اهتمام بها وبقيمتها الحقيقيّة، لأنّ افتراض احترام الآخرين لقيمة أفكارنا وحفاظهم عليها قد لا يكون أمراً صائباً في بعض الحالات.
الإعجاب والسطو
وقد لا يكون قصد بعض الناس سرقة مواضيعنا وكتاباتنا على الفيسبوك مثلاً، حين يأخذون هذه الأفكار كنوع من الإعجاب ولإبراز أهميّة الموضوع الذي قيلت فيه دون الاهتمام بأسماء مبدعيها، وهنا فإنّ علينا أن نفرّق بين حالة العمد أو السّهو والنقل غير المقصود، فإعجابنا بأبيات قصيدة ما، قد يجعلنا نسارع إلى نقلها ومشاركتها فننسى أسماء أصحابها، كما يقول الشاعر والإعلامي البحريني محمد منصور آل مبارك، وهو أمرٌ مرهون بالثقافة العامّة، ومدى التمييز بين من يتقصّد ذلك أو من قد ينقل وينشر فقط لمجرّد الإعجاب، وفي هذا الأمر، سواءً كان عن قصد أو عن غير قصد، فإنّ المعرفة بحقوق الملكية الفكرية ستجعلنا نفكّر بمالكي الأفكار والبحوث والأشعار أولًا قبل أن نذهب باتجاه النشر.
النُسخ المزيفة
قد تتنوّع السرقات الأدبية وحالاتها، ليس فقط على الفضاء الإلكتروني، كما يقول الباحث المصري د. محمد عبدالسلام، بل في الكتاب الورقي أيضاً الذي سرعان ما قد يتمّ نسخه بطرق غير مشروعة عبر «نسخ مقلّدة» أو غير أصليّة، وهو ما يدعو مجدداً إلى تأكيد القانون في ملاحقة وضبط من يفعل ذلك من الناشرين وتغريمهم بما يردّ الحقوق لأصحابها ويمنع تكرار مثل هذه التعدّيات الأدبية.
تثمين حقوق الإبداع
إن التشريع الرادع هو ما يضمن صيانة وتثمين حقوق الإبداع ويحرّك من وتيرته ويمنع أية تعديات على حقوق الملكية الفكرية، باختصار لأنّ التشريع حين يظلّ في الأدراج دون تطبيق أو تحديث، كما تقول الكاتبة والباحثة الإماراتيّة عائشة الظاهري، تصبح معه المسافة كبيرة بين ما هو صائر وما يفترض أن يصير، ومن هذا المنطلق، فعلى الجميع السعي نحو خلق وعي عام مانع للسرقات الأدبية والنُسخ المقلّدة للكتب وضد تجاهل حقوق الكُتاب أو الشعراء أو الباحثين أو أصحاب الأفكار.