«لا نستطيع إنكار وجود حرية الإرادة
وفي الوقت ذاته لا نستطيع تفسيرها» «ديكارت»
يقع الجسد في مركز عميق في الاهتمام الفلسفي، فسقراط يرى الجسد مجرد سجنٍ للروح، وهو سبب الشقاء ومصدر الحروب والمطامع والشهوات، وتظل الروح في شقاء إلى أن يحين أجلها وتتحرر من الجسد، والموت هو حال انعتاق وخلاص من الجسد الآثم والشهواني، وبعد قرون وقرون من سقراط يأتي العلم الحديث ليطرح مقولة، إن الإنسان آلة بيولوجية مما يقتضي إنكار الروح والنفس، ويبلغ الأمر حد إنكار وجود الإرادة الحرة، وأنها مجرد وهم، أي أننا فقط نظن أن لنا إرادةً حرةً ولكن أعمالنا كلها تتحرك بموجب برمجة بيولوجية تأسست في زمن مبكر من تطور الإنسان وانفصاله عن الحيوان، إذ نال الإنسان تطوراً منحه قوة في المخ تجعله ذا قدرات عقلية، في حين توقف ذهن الحيوان عن التطور لمستويات توازي ما حصل عليه المخ البشري، وهذا التطور المبكر هو ما يجعلنا نشعر أننا نملك إرادة حرة تمكننا من رسم خياراتنا مقابل عجز الحيوان عن هذه المهارة، وتمضي النظرية لتقول: إن خياراتنا ليست سوى خيارات ظاهرية، وإن كل ما نختاره محدد قبل حدوثه لدرجة أن أحد العلماء قال: إن عشاءك الذي ستتناوله بعد عشر سنوات مقررٌ لك سلفاً، وتقليب نظرك في قائمة الطعام سينتهي لخيار كان مكتوباً عليك بيولوجياً مهما ظننت أنك اخترته بحريتك الخالصة، وهكذا بلغ الغلو في حسم فكرة أن الإنسان آلةٌ بيولوجية وأننا مشروطون بالشرط البيولوجي مما يجعل الإرادة حتميةً وليست اختيارية.
ومن هذا التصور يجري نفي فكرة الروح والنفس، وأن الجسد البشري إذا مات، فهذه حالة فناء بيولوجي نهائي، ونسبة العلماء والفلاسفة الذي يسلمون بأن الإرادة الحرة وهمٌ وأنها حتميةٌ بيولوجية يتكاثرون، وهذه ما سماها جون سيرل بالفضيحة الفلسفية، حيث ظل الفلاسفة يرددون أقاويلهم عن الإرادة الحرة على مدى قرون دون أن تتقدم معرفتهم رغم أن أقوالهم هذه هي تكرار لأقاويل سلفهم ولذا، فالحل عنده هو بالركون لنظريات العلم بيولوجياً وفيزيائياً، وهذا وحده الحل للخلاص من الفضيحة الفلسفية حسب جون سيرل، أي أن عجز الفلسفة عن حل سؤال الإرادة الحرة ومن أين تأتي دفع الفلاسفة للتسليم بأقوال العلماء البيولوجيين بأن الإرادة حتميةٌ بيولوجية، وهذه هي الفضيحة الفلسفية حسب جون سيرل، ولكن آخرين من علماء ومن فلاسفة يشعرون أن في الإنسان قوى أخرى تعود للنفس وللروح، ويجب أخذها بالاعتبار لدمجها في التفكير وفي قضايا الشعور وقضايا الإرادة، وقد عرضت في كتابي «مآلات الفلسفة»، الفصل الثاني، لهذه التوجهات والخلافات فيما بينها والتي تنتهي عندي بأن الإرادة الحرة تعود لقوة نفسية غير جسدية، وهذه القوة تتصل بالروح، وإذا غادرت الروح الجسد غادرت معها الإرادة الحرة والشعور والوعي والعقل، ويبقى الجسد وحده خلواً من أي صفة حيوية أو شعورية، وهذا يجعل الجسد آلة بيولوجية ولا شك، ولكن الإنسان نفسه ليس آلةً بيولوجيةً، بل ينطوي على قوى أخرى هي أقوى من السمات البيولوجية وأكثر فاعلية في حياة الإنسان، وإذا غادرته تلك القوى فقدَ الجسد قيمته كلها، وأصبح خارج الفاعلية وخارج الوعي بكل شروطه وسماته.