نوف الموسى (دبي)
يقفُ الأطفالُ بابتسامة نبيلة، على مسرح دبي أوبرا، يحتضنون آلاتهم الموسيقية، وعيونهم تمتد في الرؤى نحو أقرانهم، متأملين ومنضبطين للحظة الساعة الموسيقية، فعندما يعزفُ شخصٌ ما في أوركسترا، فإن عليه أن ينصت لكل شيء، مستنداً بذلك إلى إحساس زميلة العازف القريب منه والبعيد، فالكل هنا يتلاشى ويتجسد في الآن ذاته، كأنهم موجةٌ واحدة في محيط الحياة الواسع، ترتفع في إيقاعها، متى ما تطلبت المقطوعة، أن تندفع نحو الشعور، وتنأى بنفسها متى ما انزاحت رغبات الألحان في الجملة الموسيقية للخفوت والسكون والصبر.

يسأل الجميع: لما كُل هذا الاحتفاء بالفضاءات الموسيقية، أينما كانت، وكيفما كانت، لأنها ببراعة الطبيعة الخالصة للجمال، لا تتطلب منّا أن نثبت لها شيئاً على الإطلاق، إنها فرحةٌ مطلقة، ورغبة عميقة للمشاركة والاحتفاء بوجودنا جميعاً، وهو تأكيد أشارت إليه أميرة فؤاد، المؤسس المشارك للأوركسترا الوطنية للشباب، المنسقة والمديرة الفنية لأوركسترا الشباب الوطنية، في احتفالية «أوركسترا الإمارات السيمفونية للشباب»، بمرور 5 سنوات على تأسيسها، وريادتها في تدريس ورعاية الموسيقيين الشباب والموهوبين من مختلف الجنسيات والمدارس في دولة الإمارات، موضحة أن منهجية تعزيز الشمولية والتنوع البديع في مضامين نسيج المجتمع الإماراتي، إنما هي انعكاس طبيعي وبديهي لتطور الأشكال التعبيرية في المزاج الإبداعي العام، وما نشهده اليوم من تناغم عالٍ للحوارات الموسيقية الكلاسيكية بين أطفال ويافعين تتراوح أعمارهم بين 5 و 18 عاماً، يشاركون في تقديمها في الحفل السنوي للأوركسترا، الذي أقيم مساء الأحد الماضي، بالتعاون مع «دبي أوبرا»، إنما هو دلالة واضحة على تكامل التجربة الإنسانية، ومدى تأثير تنوعها على إتاحة أكبر فرصة ممكنة للجميع بأن يشعر بالانتماء والحس الاستثنائي بأنه قادر على أن يشارك العالم أجمع من خلال شعوره الخالص، مهما اختلفت اللغات والأديان والعادات والمعتقدات والأفكار، ففي الموسيقى لا أحد يحتاج أن يثبت شيئاً ما، بل عليه أن يثري قدرته على التواصل مع نفسه والآخرين.

استمر الأهالي وأولياء الأمور والجمهور الحاضر في الحفل، بتحية قائد الأوركسترا المايسترو والملحن جوناثان باريت، إلى جانب عازفة الكمان الفنلندية والمؤسس المشارك إيفا غراسبك، رئيسة الأوتار، والعازفة البريطانية جاكي هايتر، رئيسة آلات النفخ، إيماناً بالجهود الكبيرة التي بذلت من قبل المؤسسين والموسيقيين في قطاع موسيقي حيوي، يتطلب مواجهة مستمرة مع العديد من المتغيرات الثقافية والاجتماعية والإنسانية والتقنية، من خلال تأسيس أوركسترا معنية بالشباب انطلقت في عام 2018، بمشاركة عازفين عددهم محدود، لتؤهل بعدها أكثر من 120 موسيقياً شاباً يتدربون ويقدمون اليوم عبر فرق موزعة، عروضاً في مساحات فنية بارزة في العاصمة أبوظبي، ومدينة دبي، بما في ذلك «أوبرا دبي» و«المسرح في وزارة التربية»، و«قصر الحصن»، و«قصر الإمارات»، و«القرية العالمية» وغيرها من المناسبات الوطنية، ما يجعلها خطوة نوعية لقراءة مشهدية التعاون الثقافي عبر العلاقات المعرفية التي تجمع القائمين على الأوركسترا، مشكلين نموذجاً في الكيفية التي تتطور بها المشروعات الموسيقية، في كونها ليست مقتصرة على تقديم خدمات التعليم، ولكن أيضاً تطوير علاقات العازفين بالحوارات الموسيقية والمجتمع المحيط المحلي والعالمي.

وحول ذلك قالت أميرة فؤاد: «أحلامنا لأوركسترا الشباب الوطنية ليست لها حدود. لقد كنا وما زلنا نبني ببطء إرثاً للبلد. نطمح لأن نكون فرقة أوركسترا شبابية رفيعة المستوى وفقاً للمعايير الدولية التي يمكن أن تظهر للعالم كيف أصبحت دبي ودولة الإمارات منارة للثقافة. وفي السنوات القادمة نطمح إلى الشراكة مع بعض الفرق الموسيقية المحترفة الرائدة في العالم ونناقش بنشاط الخطط مع الأوركسترا الملكية الفيلهارمونية في لندن في مشروع للعمل مع أوركسترا الإمارات السيمفونية للشباب لدينا هنا في دبي. نحن نبحث عن دعم الرعاة الأفراد والشركات الراعية الذين يرغبون في رد الجميل لمجتمعنا».  
ضمن جهود «أوركسترا الإمارات السيمفونية للشباب»، في تطوير حضور العزف المنفرد، كأحد البرامج المحفزة لصقل الإبداعات الناشئة، نظم القائمون مسابقة «The NYO Concerto Competition» للعازفين في الأوركسترا، وحصدت من خلالها عازفة الساكسفون روزي هاتشينجز، الجائزة الأولى، ما جعلها تحظى بأداء فردي بالتوازي مع حضور الأوركسترا في الحفل السنوى على مسرح «دبي أوبرا»، والذي بطبيعته ألقى بظلاله على الإحساس الشخصي للعازفة وحضورها اللافت، وقدرتها على استمالة الجمهور بتجاه ما تود إيصاله عبر آلة الساكسفون، وإلهام زملائها بما يمكن أن تحدثه الموسيقى من تأثير آني وحيّ في محيط حياتنا اليومية.
وقد شهد الحفل مشاركة إبداعات ومواهب من الإمارات، قدمت فيها مغنية الأوبرا الإماراتية فاطمة الهاشمي، وعازف البيانو الإماراتي أحمد الموسوي، لوحة موسيقية دافئة وحميمية، بعثت رسائل جمالية أوحت بجودة تناغم العلاقة بين أرض الإمارات باعتبارها فضاء عاماً يدرك القيمة الحضارية للمشاركة الإنسانية مع كل من يعيش على أرض الدولة.