نوف الموسى (دبي)
يبدو أنني لا أستطيع تقديم قياس دقيق، حول ما يمكن أن تُحدثه فرصة واحدة من اختلاء الفنان بنفسه، إلا أنه من المؤكد أن التجربة تجعله يشهد تحولاً جذرياً في كينونته الخاصة، المليئة بفضاء واسع من الخيال الذي لا يُمل، والتجسيد العاطفي المكنون بفائض من متناقضات الجمال وعفويته الابتكارية في الجهة القريبة من قلبه، ولكنها ما تلبث أن تنفصل عن مرادها في الإبداع، إذا ما انشغل الفنان بعيداً عن دوره في أن يرى الأشياء بطريقة لا يمكن للآخرين أحياناً تصورها أو حتى تأملها لبرهة! إنها أشياء قادرة على أن تجعلنا في مواجهة الحقيقة، وفي ذات الوقت تؤهبنا لنبقى متصلين، على رغم كم السؤال عن الفائدة المرجوة من الفعل الفني، وقيمته وسط بحثنا المستمر عن إمكانية التفرد، معتقدين أن الانفراد حالة من النزوح، بعيداً عن مصدر الأشياء، إلا أنها في حقيقة الأمر، حاجتنا المُلحة حتى نعي ضرورة المجموعة وقوتها في كونها الأوركسترا التي تتكئ عليها الآلة المنفردة، تحقيقاً لغاية التناغم والانسجام.
والأخيران هنا، ليسا دعوة رومانسية بين الفنان ومجتمعه، فالتناغم ضريبته المحضة أن يصارع الفنان مرةً ويعيد التفكير مرات عديدة.
ومن هذا المنطلق أكدت الفنانة التشكيلية صوفيا خواجة في حوارها مع «الاتحاد»، خلال افتتاح معرضها «مكامن السلطة» في «غاليري تشكيل» بالسركال آفنيو: أنه لا يُمكن أن نفقد المتعة، مهما تطلب الأمر، حتى ونحن ننازع الروح لتعبر عن نفسها فنياً، أثناء مواجهتها المستمرة لنمطية الحياة ومرور السنين وتكرار التجارب، وما هذه النمطية إلا مراسٍ نحتمي فيها، وما تلبث أن تنصهر في إلحاح الروح للغوص بعيداً وإعادة اكتشاف محيط الحياة الواسع والغامض في الآن ذاته.

حياة فوق حياة
هل علينا أن نُفسر أنفسنا، غير القابلة للتفسير؟! تراها الفنانة صوفيا، بمثابة مجازفة إذا ما توجهنا للسؤال دونما تجربة حيّة، فمن خلال مراحل عمرية مختلفة، بدءاً من المدرسة والجامعة مروراً بطموح ريادة الأعمال، وصولاً إلى الأمومة وتكوين أسرة، توصلت إلى أن الحياة تبني فوقها حياة، وطوال تلك المسيرة الحافلة بالمشاغل، لا يتسنى للمرء عادةً التفكير بنفسه، أو حتى ينتابه الفضول حول أفعاله ومسبباتها، وما هو الشعور الذي من عادته أن يقود أفعالنا ورغباتنا، موضحةً أن الأمر بالنسبة لها ظل على ما هو عليه، حتى نالت فرصة الإقامة الفنية لمدة سنة ونصف، ضمن برنامج الدراسات النقدية التابع لمركز تشكيل بمدينة دبي، واصفةً كيف أن العمل ولأول مره كفنان بدوام كامل، لم يجعلها فقط أمام منعطف إبداعي ودفع بتقنياتها الفنية إلى أبعاد جديدة في الرسم والتجسيد البصري، ولكنها كذلك أدركت دور جسد الفنان في بناء رؤيته الفنية، أن يتحرك جله في فضاء الاستوديو بحرية، ويستدعي الأفكار التي من شأنها أن تؤسس سلسلة من الحوارات التي يتردد صداها في التكوين العام لأعمالها الفنية.      
وقد وجهت الأعمال الفنية في المعرض الأنظار نحو تحديات رواد الأعمال، والصعوبات التي عليهم مواجهتها، إبان البدء بإنشاء المشاريع، ما يكشف النظرة الوردية المغلوطة أحياناً تجاه رواد الأعمال بعد نجاحهم وتحقيقهم للهدف المرجو من مشاريعهم، حيث تقول الفنانة صوفيا: قد يبدو الأمر سهلاً كما يود الآخرون النظر إليه، إلا أنه من دون نظام مستدام وداعم لمنظومة إنشاء الأعمال، فإن الأمر برمته قد يؤدي إلى انغماس في عالم من التوتر والقلق والانهاك العقلي. أردت أن أشارك الناس ذلك الواقع الصعب، لنتبادل مقدرتنا على الإدراك والفهم والتشارك فيما يواجهه بعضنا، معتقدين أن الأمر سهل عليهم، ونطالبهم بتحقيق المزيد، ما يجعلهم مثقلين بعبء إثبات ذلك طوال الوقت.

وتضمن المعرض أيضاً مجموعة أخرى لأعمال توضح بعداً مكملاً لتجربتي الفنية، وهويتي الشخصية ورؤيتي لنفسي كوني جزءاً من المكونات الفكرية والشعورية لوالدي ووالدتي، في محاولة لفهم ذلك وتأثيره في مسيرة حياتي العائلية والعلمية. وجميعها، كما لفتت الفنانة صوفيا، أمور أسهمت في إدراك ذاتها بدرجة أساسية، وجعلتها تتوصل لإجابات استنبطتها من السياقات المجتمعية والمهنية التي مارستها طوال سنوات عمرها السابقة.
أرسم بصفاء
وتتحدث الفنانة صوفيا خواجة، كيف أن شكل أعمالها الفنية اختلف، وربما يكون أهم تلك العناصر الفنية وأبرزها هو حجم الأعمال المقدمة في أول معرض فني فردي لها، قائلةً: «شعرت بأني أرسم بصفاء أكبر، في فضاء الاستوديو، ومن هنا فإن أحجام اللوحات أصبحت أكبر، والمسألة بالنسبة لي تمثل تحولاً كبيراً، حيث إنني في السابق كنت أضع الأعمال على طاولة وأرسم، وألاحظ وقتها كيف أن أصابعي فقط تتحرك، وفي المقابل في الأعمال الكبيرة، تحتاج إلى جدران ومساحات أوسع، ما يجعلك تحرك جسدك بالكامل، إنها بمثابة رقصة تستدعي حضوراً كلياً من قبلي، وهذا التفاعل تحديداً وجدت فيه متعة خاصة، إنها تلك المتعة الصرفة التي أعتقد أنني فقدتها تماماً، إلا أن التجربة أثبتت، أنها لطالما كانت موجودة، ولكنها احتاجت لمساحة جديدة تعبر فيها عن مهجتها.