ساسي جبيل

ولد عبد الرحمن بن خلدون في 27 مايو عام 1332م بمدينة تونس، في فترة حكم الدولة الحفصية، لأسرة مرموقة من أصول أندلسية ومعروفة بالعلم والمعرفة. وفي تونس تعلم ابن خلدون في جامع الزيتونة المعمور حيث كان يقيم بجواره بتربة الباي وسط العاصمة، فأتقن تلاوة القرآن الكريم والفقه وعلوم الدين واللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وغيرها. وقد ذهب الطاعون الجارف بأبيه وأمّه، قبل أن يغادر تونس في ريعان الشباب، لينال بعد ذلك مكانة علمية كبيرة في فاس وغرناطة، ثم يعود إلى تونس مجدداً، حيث لقي التهميش، إذ اعتزل الناس وتفرغ للقراءة والكتابة، ثم عاود الهجرة مجدداً بعد أن فشل في التموقع ليتجه إلى المشرق، ويجد هناك الحظوة التي كان جديراً بها. وتوفيّ ابن خلدون بمصر عن عمر ناهز الأربع والسّبعين سنة عام 1406م.
وقد وصفه عالم الاجتماع التونسي عبدالوهاب بوحديبة في كتاب صدر له بالاشتراك مع منيرة شابوتو رمادي، بأنه «رجل عصره والعصور اللاحقة، وهو في كلمة عبقري عانق الكونية باقتدار».

أصداء الفكر الخلدوني
لئن ظلت أفكار عبد الرحمن بن خلدون كامنة في رفوف المخطوطات والمكتبات لسنوات طويلة، فقد شهدت تجلياً كبيراً مع رواد ورموز فكر التجديد العربي مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، لتتصدر مقدمة كتاب «العبر» قائمة أهم المراجع التي يعود إليها المفكرون العرب لدراسة تاريخهم وعمران مجتمعهم.
وقد أثّرت أفكار ابن خلدون التاريخية والعمرانية- الاجتماعية في فكر رموز التجديد في تونس خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتجلى حضور هذه الأفكار بشكل خاص في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» للوزير المصلح خير الدين التونسي، وفي كتاب «صفوة الاعتبار» لمحمد بيرم، كما أثر هذا الفكر في الثقافة التونسية الحديثة وازداد حضوره في الحركة الثقافية والاجتماعية التونسية (كحركة الشباب التونسي لعلي باش حامبه، وتأسيس الجمعية الخلدونية.. إلخ)، وكذلك مع بعض رموز الفكر والتجديد المتأخرين، مثل محمد الفاضل بن عاشور أو مع الطاهر الحداد صاحب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، وكذلك عبد العزيز الثعالبي.
كما أثر الفكر الخلدوني في الفكر العربي الحديث، واهتم به المفكرون والدارسون للحضارة العربية الإسلامية الحديثة مثل محمد عابد الجابري، وطيب تيزيني، ومحمد أركون، وعلي أومليل، وعبدالله العروي وغيرهم.

فهرست العالم القرية
وكتاب «المقدّمة» هو كتابُ تَوطئةٍ واسعةٍ جاءت على نحو تأصيليّ نظري سرديّ فصّل فيه ما جاء في مؤلفه الضّخم: «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
وكانت مقدّمةٌ مخصوصة تضمنّت نواحي استنتاجيّة برهنت على فطنته الواعية بواقع المجتمعات الإنسانيّة على رغم اختلافها في تحرّك عناصرها فرادى وجماعات انطلاقاً من سلوكيات وثقافات وطقوس، مستنداً في كل ذلك إلى علوم عديدة كالتاريخ، والشّريعة، والاقتصاد، والجغرافيا، والعمران، والسياسة، والطبّ، والشّعر والحديث، مستمداً من مدونة الموروث بالنقل والعقل والقياس. كما تحدث ابن خلدون عن أحوال الناس، واختلافات البيئة، وأثرها في الإنسان، وتناول نشوء الدول، وتطوّر الشعوب، والأمم، وأسباب ازدهار الدول أو انهيارها، وهو ما أعانه على اكتساب كل هذه القدرات وفكّ الشّفرات الثقافية وإضاءة كوامن من المعرفة الإنسانية سُميّت لاحقاً بعلم الاجتماع.
وقد انقسمت مقدّمة ابن خلدون إلى ستة أبواب. الباب الأول: العمران البشري على الجملة، وأصنافه، وقسطه من الأرض. والباب الثاني: ذكر العمران البدوي، والقبائل والأمم الوحشية. الباب الثالث: تحدث عن الدول، والخلافة، والملك، كما ذكر المراتب السّلطانية. الباب الرابع: تناول قضية العمران الحضريّ، والبلدان، والأمصار. الباب الخامس: تحدث عن الصنائع، والمعاش، والكسب، ووجوهه. الباب السادس: تحدث عن العلوم، واكتسابها، وتعلّمها.
والحال أن مقدّمة ابن خلدون ما زالت تثير جدلاً لدى بعض الباحثين حول أحقيّته في اكتساب لقب «مؤسس علم الاجتماع» قبل بعض منظّري الدرس الاجتماعي الغربيين (أوغست كونت، وإميل دوركايم، وماكس فيبر وغيرهم...). ولكن يجمع الباحثون ذوو الصفة على أن «المقدمة» اشتملت على دقائق معرفية ومنهجية نفيسة، وأظهرت أنّ المجتمعات البشرية تمضي وفق قوانين محددة تسمح بالتنبّؤ بالمستقبل في حال دراستها بشكلٍ جيّد، وأكّدت أن هذه القوانين يمكن تطبيقها على المجتمعات التي تعيش في مختلف الأزمنة. وأشار ابن خلدون إلى أنّ علم العمران لا يتأثر بالحوادث الفردية، بل بالمجتمعات ككلّ، وقد توصّل إلى العديد من النظريات الباهرة حول نظرية العصبيّة وقوانين العمران، وأطوار الدول وعوامل سقوطها.

ابن خلدون وتونس
ومكتشف علم العمران البشري ظل يحظى بتقدير كبير في الأوساط الفكرية التونسية على مر العصور، إذ يتوسط تمثاله اليوم قلب الشارع الكبير في مدينة تونس العاصمة في مجسم كتب بجانبه مقولته الشهيرة «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار.. وفي باطنه نظر وتحقيق». كما يطلق اسمه على العديد من الفضاءات الثقافية والتربوية في مختلف أنحاء البلاد اعترافاً له بفضله على الثقافة التونسية والعربية والكونية بصفة عامة. وتمثال البرونز الذي يتوسط تونس العاصمة أعده الفنان التونسي زبير التركي، كما خلدت صورة تخيلية لابن خلدون على ورقة نقدية.
كما قامت الدولة التونسية في مراحل مختلفة بترميم بيته، وكانت تنوي تحويله إلى متحف ليكون مزاراً يأتيه السياح من كل مكان، ولكن ذلك لم يحصل وبقي البيت مجرد أرشيف لإحدى مصالح وزارة الثقافة التونسية، كما يوجد مسجد عبدالرحمن بن خلدون بالمدينة العتيقة، ويؤمه المصلون إلى يوم الناس هذا.
وبعد أكثر من 6 قرون على وفاة ابن خلدون ما زال الرجل يمثل مرجعاً مهما للدارسين في مختلف جامعات الدنيا إذ استشرفت «المقدمة» أفقاً أبعد بكثير من أفق زمنها، ومثلت نصاً فكرياً خالداً وعابراً للأزمنة والقرون.