بقلم: سلفيان كارّيي
ترجمة: أحمد حميدة
لقد طال الطّمس والتّشويه في أيّامنا هذه نسخاً من أعمال فنيّة فارقة مثل الموناليزا لدافنشي أو عبّاد الشّمس لفان غوغ، وذلك على أيدي نشطاء متعصّبين أفصحوا عن سخطهم على تلك الأعمال السّاحرة، التي رأوها شبيهة بالطّاقات الأحفوريّة أو بأشكال أخرى من الاحترار المناخي الذي لا ينفكّ يستفحل في كلّ أرجاء المعمورة. وقد يستوقفنا ذلك ويحيلنا على السّؤال التّالي: ولكن ما علاقة هذا بذاك؟
يجسّد ذلك في الحقيقة أحد الملامح الجديدة لثقافة الرّفض والإلغاء التي طالت أعمالاً فنيّة مجيدة موروثة عن السّلف، أعمال أصبح ينظر إليها على أنّها تنخرط في سياسة مدمّرة لكوكبنا الأرضيّ، وبعمليّة اِنزلاق غريب للمنطق، باتت تحشد مقدّرات النّظام الرّأسمالي للإخلال بتوازنات هذا الكوكب، لذا.. وجب، في نظر هؤلاء المتعصّبين نسفها، وتقويض كلّ ما تنطوي عليه من تمجيد للماضي وتكريس لثراء قسم من المجتمع على حساب عامّة النّاس.
مثل هذه المواقف لبعض الشّباب المتحمّس التي تبدو لا محالة يائسة، لتترجم بصورة واضحة عن عجز هؤلاء القوم في جعل أصواتهم مسموعة: فأكثر من رغبة تدمير تلك الأعمال الفنيّة «التي غالباً ما تكون محميّة»، يتعلّق الأمر هنا، بردود أفعال مفرطة ومزعجة، غايتها الشّوشرة على أذواق النّاس وجلب انتباههم إلى وجاهة قضيّتهم. فيما تغذّي أشكال أخرى من تلك الأعمال، كتدمير النّصب والمعابد، أيديولوجيّا أكثر تطرّفاً: محو كامل لإرث الماضي. وثمّة حالة تواصل بين مبدأ الانفتاح الرّاديكالي الذي تنادي به الدّيمقراطيّات اللّيبراليّة، وفكرة المحو تلك، التي في تربتها تنمو الأحلام المدمّرة للعمليّات المحتملة للتّقويض والهدم.
ويبدو أنّ هذا الطّمس الذي يطال الأعمال الفنيّة غدا اليوم نشاطاً مسايراً لذوق العصر، فبعد داميان هورست الذي أضرم النّار في قرابة 5000 من إبداعاته في أحد أروقة الفنون، وتحويل أحد هواة الفنّ رسم فريدا كاهلو إلى كومة من رماد، انتقلت تلك العدوى إلى الشّاشة الصّغيرة، إذ اعتزمت شركة إنتاج تلفزيوني بريطانيّة استحداث برنامج جديد بعنوان «الفنّ المربك» الذي يحيل فعلاً على مفهوم مربك وملتبس للفنّ ! وكانت فكرة مصمّمي هذا البرنامج هي حثّ النّاس على اقتناء وتدمير أعمال فنّانين عدّو في زمنهم من المبدعين المربكين مثل بابلو بيكاسّو، فغدت هذه العدميّة المعلنة رديفاً للفضيلة. ويعني ذلك أنّ كلّ إنسان يحظى بمنزلة رفيعة في المجتمع سوف يقيّم وبصورة صارمة، اعتماداً على مدى رمزيّته كشخصيّة «مريبة»، أي غير متساوقة مع الأيديولوجيا الآنيّة الرّافضة لإرث الماضي.
أهمية الجمال
إنّ القاسم المشترك لمثل هذه المواقف هو أنّها في جوهرها نتاج زيغ أساسه التعصّب وانحراف يترجم عن عجز في استيعاب وهضم جانب التّعقيد في حياتنا الاجتماعيّة، أي عن التّمييز بين الأشياء التي يحكمها المنطق والمعقول، بل الأصليّ.. والجوهري في ثقافة ما، والأشياء التي تكون بحاجة فعلاً إلى التّغيير، لذا يتوجّب على كلّ واحد منّا القبول بحقيقة أن كلّ مؤسّسة بشريّة وكلّ النّواميس النّاظمة للحياة تبقى محكومة بتوق دائب إلى مراتب الكمال، وأنّ تلك البنى تحمل في طيّاتها جانباً من الظّلمة ومن الضّياء. ولا ينبغي أن نذهب حدّ استهجان الفنّ ونبذ أهميّة الجمال، الذي هو في جوهره تعبير حرّ معمّم بين الجميع، ولأنّ مثل ذلك الإلغاء لا يعني سوى التنكّر لجانب أساسيّ من مقوّمات إنسانيّتنا.
الفنّ المعاصر
حينئذ يبدو أنّ غاية الفنّ المعاصر اليوم لم تعد هي الترقّي في مدارج الجمال، إذ باسم الحداثة تمّت إزاحة المعايير العرفيّة التي تولّدت عنها طائفة لا حصر لها من التّحف الفنيّة الباقية، المتميّزة بقدرتها على خلق أشياء أخرى متعالية ومتسامية، ذلك أنّ الجمال في هذا العالم المحسوس لا يمكن أن يكون سوى علامة دالّة على جمال أرقى وأنقى، لا دور للعقل في فكّ طلاسمه، لأنّه متفلّت عن المرئيّ. فلا يقدّم لنا المنجز المرئيّ بالنّهاية غير نسخة منه قابلة للتّلف لا تخل غالباً من التّزييف، وقد يحملنا ذلك على التّساؤل عن أهميّة الجميل ودوره في المجتمع البشري. لئن كانت معايير الجمال معايير ذاتيّة، فإنّ التّوق إلى ذلك الجمال يبقى بالأساس ظاهرة طبيعيّة مواكبة لسيرورة الحياة. ولكن متى أزحنا المقاييس المصطنعة للجمال الذي تمنحنا إيّاه وسائل الإعلام والأطراف المؤثّرة في الذّوق الجماعيّ، نكن معتقدين أنّ الجمال تافه وعديم الجدوى، وأنّه امتياز يحظى به أثرياء القوم، أو أولئك الذين ترعاهم بزور الجنيّات أو تسعفهم المصادفة.
رؤيتنا للأشياء
هل يكون بوسعنا أن نتعلّم كيف نرى بشكل معمّق الأشياء التي تحيط بنا، ونلمس الرّوابط التي تشدّنا إلى الآخرين.. إلى الطّبيعة وإلى ما هو جوهريّ؟..لأنّ الجمال هو أيضاً لغز يكشف لنا ما يتحيّز في رؤيتنا الحسيّة للأشياء فيما يغفلنا عمّا لا نراه، فيغدو المرئيّ هكذا استشرافاً للاّمرئيّ، فحين نقدم على تدمير عمل فنيّ، أفلا يكون ذلك ضرباً من التنكّر لذواتنا ولانتمائنا الإنسانيّ؟ ففي الرّوح البشريّة، ثمّة دائماً توق ثابت للصّورة وللموسيقى، للسّرد، للشّعر والجمال. والجميل في هذا السّياق يمكن أن يكون مربكاً، لأنّ سطوته تفعل فعلها فينا وتجتثّنا من إحساسنا بالتّناهي وبدونيّتنا، وإن ألقى بنا مذهولين على أعتاب اللاّمرئيّ. وإنّه لمن قبيل الجنون أن نعمل على تدمير ما به نبني أنفسنا ونشيد شخصيّتنا، إذ على حدّ قول وينستن شرشيل: «قد يكون البناء ثمرة جهد طويل وعسير، ولكنّ تدميره قد لا يستغرق أكثر من يوم !». فأمام حالات الإحباط والتعصّب التي تنتاب الكثيرين، لنجرأ على اعتماد الخيار الفلسفي القائم على التّقدير الرّاشد والقويم للأشياء، أي أن نمعن في البناء في العالم المرئيّ، عسى هذا المرئيّ يكشف لنا سرّ الجمال المستكنّ بداخلنا فيتعمّق إحساسنا بحقيقة كينونتنا ! لنلتزم حينئذ بالجمال وبنواميسه .. ولنعمل على أن تكون حياتنا شبيهة بالتحفة الفنيّة ! فالإنسان المعدّل الذي يتمّ الحديث عنه هنا وهناك، هو ليس الإنسان الرّقميّ، وإنّما هو الإنسان- الفنّان.. الإنسان المبدع !