الفاهم محمد
يدق العديد من المفكرين ناقوس الخطر بخصوص فكرة التفرد التكنولوجي أو المفردة the singularity سواء في مجال الذكاء الاصطناعي، أو في مجال الهندسة الجينية، أو التطورات الاقتصادية والسياسية. من هؤلاء المشككين نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ستيفان هوكينغ وماكس تيغمارك وإيلون موسك... كل هؤلاء وغيرهم يطالبون بوقف الأبحاث وكبح جماحها، قبل فوات الأوان، ذلك أن بلوغ التفرد التكنولوجي لن تكون له إلا نتيجة حتمية واحدة.. اختفاء الإنسان.
على عكس ذلك، هناك علماء آخرون، يؤكدون أن الأمر لا يقع على هذه الدرجة من الخطورة، إننا في الحقيقة نهول من الدور الذي يمكن أن تلعبه المفردة في تاريخ الوجود البشري، لذلك هم يقدمون أمثلة مضادة على الإخفاقات التي تعاني منها هذه التطورات، سواء في مجال ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي، أو في مجال الهندسة الجينية. على سبيل المثال، أخفقت سيارة القيادة الذاتية التي اخترعتها شركة غوغل، كما مات أيضاً الرجل الذي تم زرع قلب خنزير مكان قلبه الطبيعي. باختصار لن يتمكن هذا التفرد التكنولوجي من إحداث تغيرات جذرية في تاريخ الحضارة البشرية. والذكاء الاصطناعي الخارق لا يزال بعيداً.
بين هذا الطرح وذاك، يشكل التفرد التكنولوجي موضوع قلق هائل بخصوص مستقبل البشرية، لذلك نحن في حاجة ماسة إلى تفكير عميق، يحدد الدور الذي ينبغي أن يلعبه الإنسان في عالم ما بعد المفردة/ التفرد التكنولوجي. هل يتعلق الأمر بمجرد أسطورة جديدة أم برعب حقيقي قادم؟
مفهوم المفردة
تطور مصطلح المفردة أو التفرد التكنولوجي في الأصل داخل المجالات العلمية الدقيقة، كالرياضيات وعلم الفلك والفيزياء النظرية، قبل أن يصبح مفهوماً إشكالياً في حقل الدراسات الفلسفية والمستقبليات. بعد ذلك تحول هذا المصطلح إلى مفهوم قائم بذاته، وتطور داخل حقول اجتماعية وفلسفية، حيث بقي يدل على كل التحولات غير المتوقعة، التي يمكن أن تغير كل ما هو قائم، وحيث تكون مجمل هذه التغيرات خارج نطاق سيطرة الإنسان.
يرى راي كورتزفايل، أن التطورات التكنولوجية، التي نعرفها في العقود الأخيرة، تسير بسرعة مضاعفة وغير مسبوقة في التاريخ. وهكذا في نظره:«سنكون في السنوات الخمس والعشرين التالية، قد صنعنا تقدماً بثلاثة أمثال التقدم الذي رأيناه في القرن العشرين. سوف نصنع في القرن الحادي والعشرين بالضبط سيُحدث هذا خلال منتصف هذا القرن تقدماً يقدر بعشرين ألف سنة». كل هذه التراكمات المعرفية، والابتكارات التكنولوجية، والتي تتقدم دائماً إلى الأمام حسب قانون مور، ستصل إلى نقطة لن نستطيع التحكم في مجرياتها، بحث ستخلق عالماً جديداً، تتغير فيه أوضاع الإنسان بشكل عميق ولا رجعة فيه.
على سبيل المثال، في اعتقاد كورتزفايل دائماً، سنتمكن من دمج الذكاء الاصطناعي بالذكاء البشري، عبر جعل الربوتات الناووية الذكية، تخترق الشعيرات الدموية كي تصل إلى المخ. إن كل هذه التطورات وغيرها ستؤدي في المستقبل إلى حدوث ما يصفه بـ:«تمزق في قماشة التاريخ البشري» تماماً كما حدث في المجال الفضائي، عندما تمزق النسيج الزمكاني انطلاقاً من نقطة متناهية في الصغر. وهكذا سوف لن يتوقف التفرد التكنولوجي عن صنع ذكاء يحاكي الذكاء البشري، بل سيتجاوزه تماماً.
المفردة المعلوماتية
في فيلم HER، إخراج سبايك جونز 2013، يقع البطل خواكيم فينيكس في غرام كائن افتراضي رقمي. برنامج تشغيل أطلق عليه سامانتا. وهكذا يسير الفيلم باتجاه عرض التأثيرات الخطيرة، التي يمكن أن يتركها الذكاء الاصطناعي على أدق المشاعر الإنسانية. هذا مثال واحد فقط من بين المئات من الأمثلة، التي تدق ناقوس الخطر بخصوص الآفاق التي يقودنا إليها الذكاء الاصطناعي. إن ساعة التفرد التكنولوجي، قريبة يعتقد راي كورتزفايل، حيث وضع لها تاريخاً محدداً هو 2045. أما فيرنر فينغ وهو أجد منظري أطروحة المفردة فقد توقع ذلك سنة 2023. ومهما كان الاختلاف بسيطاً بين هذه التواريخ، فهي تشير إلى أننا نقترب بسرعة كبيرة من هذا الحدث العظيم، الذي سيغير مصير البشرية بشكل لا رجعة فيه.
ولكن ما هو هذا الحدث المنتظر الذي تسير نحوه المفردة؟ إنه بكل تأكيد أن يتمكن الذكاء الاصطناعي، من هزيمة الذكاء البشري والتفوق عليه. سيحدث ذلك في نظر راي كورتزفايل عندما سنتمكن من محاكاة المخ البشري في كمبيوتر عصبي. أو بصيغة أخرى تحميل الوعي البشري داخل الرقائق والمسرعات الإلكترونية.
في المقابل يعترض العديد من المفكرين «روجيه بينروز وجون سورل...» مؤكدين أن الوعي البشري، لا يشتغل بطريقة خوارزمية، وأن المخ البشري ليس «كمبيوتر» معقداً من اللحم والأعصاب. هناك أشياء ستظل الآلات تفتقد إليها مهما تطورت، إنه القصدية والفهم والقدرة على التأويل.
في هذا السياق أيضاً، خصص الباحث الفرنسي جان غابرييل غاناسيا كتابا تحت عنوان:«أسطورة المفردة. هل ينبغي أن نخاف من الذكاء الاصطناعي؟»، مؤكداً أن الأمر لا يعدو أن يكون في نظره يوتوبيا جديدة، تدفعنا للاعتقاد أننا ستصبح خالدين، وأكثر ذكاء وقوة.
ولكن مهما كانت هذه الاعتراضات الفلسفية، فإن علماء وادي السليكون ماضون في طموحاتهم اللامحدودة، نحو صنع آلات تمتلك استقلالاً ذاتياً، وقادرة على اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى الإنسان.
المفردة البيولوجية
ما يزيد من حدة الثورة المعلوماتية وتأثيراتها المهولة، هو أنها تسير بتوازٍ عجيب مع ثورة أخرى، لا تقل عنها أهمية وهي الثورة البيولوجية. فما يحدث في عالم الهندسة الجينية، شيء يتجاوز الوصف. يتحدث البعض مثلاً عن إمكانية خلط جينات الكائنات الحية مع بعضها بعضاً، من أجل الحصول على كائنات جديدة، لم تعش من قبل على وجه البسيطة. كما يرى التطوريون الجدد، أن عهد داروين قد أصبح من الماضي وأنه آن الأوان لـ «تطوير التطور»، بمعنى أننا لن ننتظر الطبيعة متى تتوصل لطفرة جينية بعد آلاف من السنين، بل ينبغي اختزال هذه المدة الطويلة داخل المختبرات. إن الغاية القصوى لكل هذه التطورات، هي ترقية الإنسان وتعزيز قدراته ودمجه مع الآلات، ضمن ما يصطلح عليه بالإنسان المعزز. سيصبح الإنسان وحدة متكاملة بين العضوي والمعدني. وسيكون هذا إيذاناً بميلاد نزعة إنسانية جديدة، تتجاوز تماماً العالم الذي نعرفه.
ما بعد المفردة
علينا أن ننظر إلى المفردة كنقطة مفصلية ننتقل فيها من وضع إلى آخر. إن ما يهم ليس فقط التراكمات النوعية التي ستظهر، بل الوضع الجديد الذي تخلقه. خصوصاً أن ما تشير إليه أطروحة المفردة هو أن التغيير مسألة حتمية، وأنه لا يمكننا بتاتاً السيطرة عليه. وهكذا يكون السؤال الأساسي هو ماذا سيوجد بعد المفردة؟!
من المؤكد أننا نسير باتجاه انقلاب هائل في المجتمع البشري، بل يمكننا القول بكل تأكيد، إن المفردة ستغير في طبيعة الشرط الإنساني.
إن ما يمكن ملاحظته هو أن التفرد بعد من أبعاد الوجود. فالثلاثة عشر مليار سنة عرفت الكثير من انبثاق للتفردات، بدءاً من نشأة الكون ذاته، إلى ظهور الحياة فوق الأرض، ثم ظهور الوعي واللغة والحضارة. لقد كانت كل هذه التفردات خلاقة ومبدعة، وهو ما نأمل أن يستمر في المستقبل، بدل أن يكون التفرد القادم كارثياً ومدمراً.