إبراهيم الملا
لم تكن «سلمى خضراء الجيوسي» التي رحلت عن عالمنا قبل أيام، مجرد كاتبة وناقدة ومؤرخة وشاعرة، بل كانت جسراً ثقافياً عتيداً يصل المجهول بالمعلوم، والمنسيّ بالمتحقّق، والغائب بالمتجسّد، ضمن توق متأجّج لديها لإعادة الألق للمنجز الثقافي العربي في الذاكرة الإنسانية.
ولدت سلمى عام 1926 في ظرف زمانيّ حرج، شكّل شخصيتها، وحرّك بوصلة هواها نحو البحث والتحليل والتفكيك لفهم الظواهر المحيطة بها، والنظر بعيداً للمعضلة العربية من زاوية أوسع وعياً واستبصاراً وتمعّناً، وضمنّت هذه الزاوية العديد من القراءات والدراسات والبحوث، فحصلت – كما تشير سيرتها الأكاديمية - على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة لندن، ودرّست وحاضرت بعد تخرجها سنة 1970 في العديد من الجامعات العربية والأجنبية مثل الخرطوم، الجزائر، قسنطينة، وفي جامعة يوتا بالولايات المتحدة الأميركية، ثم في جامعة مشيغان، ثم في واشنطن، وبعدها في تكساس، وسافرت إلى عدد من البلدان العربية والأوروبية، وأسست مشروعاً كبيراً يقدم الثقافة العربية إلى الغرب، فأنشأت عام 1980 مشروع «بروتا» للترجمة والمعنيّ بتغيير صورة العرب ومكانة الثقافة العربية لدى الآخر الغربي، وما يحيط بترجمة الأدب من إشكاليات ومشكلات، وبحاضر ثقافة العربية ومستقبلها، ونقل الثقافة العربية إلى العالم الأنجلو-سكسوني، كما أنتجت «الجيوسي» موسوعات متخصّصة، وكتباً في الحضارة العربية والإسلامية، وروايات ومسرحيات وسيراً شعبية وغيرها.
وهج الإبداع 
كانت «سلمى» ترى أن الإبداع لا يتيه أبداً، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، ومن هنا كان عليها أن تقتنص وهج الإبداع العربي أينما حلّ وارتحل، لكي تعيد له النبض والحياة ضمن ديمومة متواصلة عبر الترجمة والانفتاح على الآخر، وكان الشعر مرتكزها الأول الذي استندت عليه في بناء مشروعها الثقافي الضخم، الذي لم يكن ليولد لولا طموحها العارم، ودأبها غير المنقطع، وانهماكها العميق في اللسانيات والعلم المقارن والترحال الذهني الشاق نحو جذور المعرفة الإنسانية منذ بداياتها المبكرة وحتى العصور الحديثة.
خرجت «سلمى» من مخاض وجودي صعب، وتحديداً في السبعينيات والثمانينيات المنصرمة عندما كان العالم العربي يمر بالكثير من التحولات الجيوسياسية والفكرية والثقافية، وتحديداً ما يتعلق بصراع التراث مع الحداثة، وانتبهت إلى أن ما يجمع بين العرب هو أكثر بكثير مما يفرّقهم، وكانت اللغة هي المؤشر الأهم الذي قادها لتوقير الجمال الشامل لهذه اللغة، جمال متراكم، حيّ ومتدفق، وقادر على تقريب وجهات النظر من أجل غاية أسمى، تمتلك من مفهوم «الإنسانية» النصيب الأكبر، ومن هنا أيضاً كان عملها الدؤوب على ترجمة القصائد والسرديات العربية القديمة منها والحديثة، هو العمل الذي هيمن بشكل واضح على وقتها وجهدها المكرسّين لصياغة عالم جديد يقوم على التآلف والتسامح والحداثة المتّزنة الموائمة بين ما هو تراثي كقيمة ومحتوى وبين ما هو معاصر كبنيةٍ وتعبير.
استنارة ثقافية 
كانت قوة سلمى الذاتية والأكاديمية الناعمة هي الوسيلة المثالية بالنسبة لها للتقليل من منسوب الكراهية والعنصرية والاستعلاء تجاه الحواضر العربية والإسلامية، فمن وسط أوروبا ووصولاً إلى أميركا كانت «سلمى» تطلق مشاريعها التقريبية في صميم الوعي الغربي من خلال ترجمتها لكنوز الشعر العربي وسردياته وقصصه الأثيرة، ومن خلال اشتغالها النقدي الحثيث على ظواهر وتحولات الأدب المشرقي عبر العصور. جسدت سلمى الخضراء الجيوسي الراحلة قيمة وتأثير الاستنارة الثقافية، إنتاجاً ونقداً وتحليلاً من خلال اشتغال فردي عززته باشتغال آخر جماعي، وعابر للحدود وللإثنيات والأعراق، وتركت للمكتبتين العربية والغربية إرثاً نقدياً خصباً يعدّ منارة مثالية للأجيال القادمة كي تكمل ما بدأته «سلمى» من مشروع إنساني واعد يقبل التنوع والتعدّد ويرفض الانغلاق والتشدّد، وحتى وسط الجدل الكبير الذي شهدته فترة إقامتها في بيروت بين النكوص إلى الأدب القديم، وبين تحطيم «التابوهات» والانفتاح الشره على الحداثة، اختارت سلمى الجانب المتوازن الذي لا يلغي القديم ولا يتجه بشكل صدامي وأعمى نحو ما هو معاصر ومنفصل تماماً عما سبقه من تاريخ إبداعي له ثقله وحضوره في زمنه، وقالت في هذا السياق: «إن إصدار الأحكام المطلقة في الفنّ مسألة بالغة الخطورة، ولكننا نعرف أنّ أية ثورة كفيلة بدفع أبطالها إلى الحدود القصوى. أوزان الشعر ليست مسألة سهلة وفي متناول الجميع، والعديد من أصحاب الهوى الشعري لا يفلحون في امتلاكها والتمكن منها. ولكن، في المقابل، لا ينبغي لأيّ شيء أن يمنعهم من التعبير عن أنفسهم في الوسيط الوحيد المتبقي لديهم: النثر. ومن المُفقر لأيّ فنّ أن يحصر فضاء تعبيره في نمط واحد»، وكانت ترى أن قصيدة النثر ستشهد هي الأخرى تحولات مستقبلية تغيّر من شكلها ونمطها التعبيري، لأن الأدب بالنسبة لها كائن تعبيري يتطوّر وينمو ويتفرّع برغم احتفاظه بجذوره ومنابعه الأولى.
التأسيس الواعي 
من الأقوال الأثيرة أيضاً لسلمى الخضراء الجيوسي، «أن ننقل خشباً يبني جسراً خير من أن نردم الهوة بقش يتطاير»، ما يؤكد مراهنتها على التأسيس الواعي والخطط طويلة الأمد عند بدء أي مشروع ثقافي كبير ومستدام، فلا العشوائية ولا الحماس الفردي واللحظي يمكن لهما أن يغرسا مدماكاً قوياً لأي مشروع يطمح للبقاء والاستمرارية، ومن هنا أيضاً كان اشتغالها على الترجمة المزدوجة من وإلى اللغة العربية من خلال وسيط آخر هو اللغة الإنجليزية، هو بداية لمشروع أكبر كانت تطمح لتحقيقه قبل رحيلها وهو الترجمة من وإلى عشر لغات عالمية، من خلال مركز كبير يحقق لها هذه الأمنية الثقافية الجامحة، وكانت إسهاماتها شاهدة على هذا الطموح السابق لزمنه وظروفه، فأنتجت أعمالاً ضخمة جمعت بين العمل الفردي والتعاون الجماعي، فقدمت موسوعاتها: «الشعر العربي الحديث» (1987) و«موسوعة الشعر الفلسطيني المُعاصِر»، و«أدب الجزيرة العربية» (1988)، و«نصوص مسرحية عربية قصيرة» (2003)، وصلت إلى إنتاج ما يربو على 60 كتاباً، كي يرى العالم الإبداع العربي بمختلف صنوفه وتوجهاته، وكي يقرأ العرب أيضاً ما أخفاه حاجز اللغة من جواهر شعرية وسردية ونقدية غربية لا يمكن تركها في مهبّ الغفلة والنسيان والانكفاء. تقول سلمى الجيوسي في إحدى قصائدها: «تباركت الأرض، أرض الجدود، وأرض السنابل، والأقحوان، وأرض السنابل، وحين يجنّ الغروب، وتغفو أعاصير روحي، سوف يلحّ على الدرب شوق عميق، ستهتك ستر الظلام العبوس، وتفتق سدّاً منيع الحواجز من سوره، ليدفق عمر الضياء العظيم على الجانبين»
وكأن بهذه القصيدة كانت «سلمى» تستشرف مستقبلاً أفضل للعالم، حين يكون السلام الداخلي معبراً ذهبياً للسلام بين الشعوب، فاختارت قنطرة: «الترجمة» ونافذة: «الكلمة» وباب: «الثقافة» كي لا يكون البشر غرباء اليد واللسان عندما يتعلق الأمر بتخطي الحواجز المصطنعة، والانكشاف على مديات أكثر اشتباكاً بجماليات الحياة، وإنسانية الإنسان، والانحياز المطلق للطمأنينة المعرفية والسكينة العرفانية.